د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

تضخم الأنا

عندما حزمت حقائبي في رحلة الدكتوراه الميدانية لدراسة سلوك القياديين في القطاع المالي، قال لي المرشد الأكاديمي، البروفسور هيغز، وهو عَلَم من أعلام القيادة: «محمد، أرجو ألا تفاجأ بعد عودتك إلى لندن لتجد أن نتائج بحثك قد كشفت عن تضخم الأنا لدى القياديين». لأول وهلة، ظننته يلمح إلى عقليات العاملين في منطقة الشرق الأوسط. ثم سرعان ما اكتشفت ما كان يقصده، الأمر الذي أكدته الكثير من الأبحاث في شتى قارات العالم، وهو أن القياديين لديهم بطبيعة الحال صورة متضخمة قليلاً عن أنفسهم أو أسلوبهم، وإذا ما سألت المرؤوسين ممن يعملون معهم قد تجد تبايناً ملحوظاً ليس في صالح القياديين. بعبارة أخرى، عندما تقيس رأي المرؤوسين في أسلوب مسؤوليهم، ستجد أن معدل رأيهم أدنى من رأي المسؤولين عن أنفسهم. وهو ما حدث معي في نتائج الدكتوراه عندما وجدت أن المسؤولين لديهم انطباع «زائف»، أو غير دقيق عن أنفسهم، إذا ما أخذت بالاعتبار رأي المرؤوسين فيهم. البحث كان متشعباً جداً، وهذه جزئية بسيطة لفتت انتباهي.
وقد تساءلت إذا كان المسؤول يعتقد أنه يفعل الصواب، عندما يتعلق الأمر بإدارة الناس، فكيف سيكون شعوره حينما يسمع رأياً ينتقده بحدة في وسائل الإعلام، أو يظهر له شاب ذكي وجريء في الاجتماع ويوجه إليه انتقاداً صريحاً عن أدائه أو طريقة تعامله مع الآخرين.
هذه معضلة كبيرة تبرز في حواراتنا، وكثير من الأبحاث التي لا ننتبه إلى طبيعتها. ففي العلوم الإنسانية عادة ما توزع استبانات على الفرد، وتسأله عن نفسه (self-report)، في حين عندما تسأل الآخرين المنصفين (سراً) (peer-report) عن هذا الفرد تجد أحياناً العجب العجاب، أو ربما نقيض ما يمجد فيه المرء نفسه. مشكلة الإنسان أنه حينما ينظر في المرآة لا يرى إلا صفحة وجهه، ولا تُظهر له المرآة وزنه الحقيقي أو صورته من جميع الاتجاهات، أو صوته، وأسلوبه، وهو يتعامل مع من حوله. وهذا ما يدفع العاملين بالتحقيقات إلى تصوير «بروفايل» المتهم من جميع الاتجاهات، كما في الأفلام، لتظهر أبعاده الحقيقية.
ولأن شهادة المرء بنفسه مجروحة، ولكون تقييم مسؤوله له هو الآخر رأي أحادي قد تشوبه شخصانية، فقد برزت نداءات في الإدارة باستخدام نماذج 360 لتقييم أداء الموظفين من أربعة اتجاهات. فلا يعقل أن يقيم القيادي شخص واحد، فالمنطق يقول إن لمرؤوسيه الحق في إبداء الرأي (رأسياً)، وكذلك لنظرائه (أفقياً) ممن يحتكون به، أو يعطل مصالحهم، أو «يحفر لهم»، كما نقول باللهجة العامية في العمل. فتجد أحياناً وكيلاً أو وزيراً أو مديراً يضع العصي في دولاب زميله أو زميلته، ليعطل عملها، إما نكاية أو حسداً.
ولتكون العملية منطقية، لا بد أن يمنح المسؤول المباشر أكبر وزن نسبي لتقييم القيادي (70 في المائة مثلاً)، وتوزع باقي النسب (الأوزان) على الأطراف الأخرى (المرؤوسين، النظراء). وإذا كان يحتك بعملاء أو موردين مهمين يمكن أخذ معدل آرائهم بطريقة محترفة وعادلة. وتكمن أهمية التقييم متعدد الاتجاهات (360) في أن بعض القياديين يحسنون إدارة علاقتهم مع مسؤوليهم (أعلى السلم)، لكنهم في الواقع «يسحقون» كل من يعمل تحت إمرتهم! وهذا مما يفاقم الأنا فيهم بمباركة نظام التقييم وكبار المسؤولين. كما يجب أن يكون لمؤشرات الأداء المدروسة والمعتمدة من الجهات العليا نصيب في التقييم.
فكرة تقييم القيادي من قبل شخص واحد فقط، وهو مسؤوله المباشر، لم تعد مجزية، فالتنافس بدأ يشتد، والأجيال الجديدة صارت تحمل من المهارات ما يؤهلها لتبوء الكثير من المناصب التي يشغلها أناس لا يدركون حقيقة أنفسهم وأدائهم المتدني من وجهة نظر كل من يحتك بهم.