«كورونا» يفرض سطوته على مشروعات تخرج «الفنون الجميلة»

رصدت تأثير التباعد والعزلة في المجتمع

لوحة زيتية لفتاة مغلفة بالبلاستيك للطالبة بسنت حسام (الشرق الأوسط)
لوحة زيتية لفتاة مغلفة بالبلاستيك للطالبة بسنت حسام (الشرق الأوسط)
TT

«كورونا» يفرض سطوته على مشروعات تخرج «الفنون الجميلة»

لوحة زيتية لفتاة مغلفة بالبلاستيك للطالبة بسنت حسام (الشرق الأوسط)
لوحة زيتية لفتاة مغلفة بالبلاستيك للطالبة بسنت حسام (الشرق الأوسط)

بين محاولات رصد ملامح ظلال متشابكة غيّرت تقاسيم وجه الحياة والبشر في ظل العُزلة التي فرضها فيروس «كورونا» في جميع أنحاء العالم، من خلال سبر أغوار النفس البشرية وانفعالاتها المتباينة، ومعاناتها من التباعد الاجتماعي، وبين البحث عن إرهاصات الأمل في عودة الحياة إلى طبيعتها، تنوّعت أعمال مشروعات التخرّج التي يعمل عليها طلاب كلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان بالقاهرة، لتسلط الضوء على جوانب مُتباينة من تأثيرات العُزْلة والتّباعد الاجتماعي على حياة البشر ومشاعرهم، كأنّها تُزيل طبقات مُتتالية من المشاعر الإنسانية والغرائز البشرية تتأرجح ما بين آلام الحاضر وقسوته، والأمل في أن تُشْفي الطبيعة نفسها كما يحدث دائماً.
حاولت بسنت حسام، الطالبة في قسم التّصوير الزيتي بكلية الفنون الجميلة رصد حالة الخوف التي أصبحت تُسيطر على البشر وسلوكياتهم عبر لوحة زيتية تصور فتاة مُغلّفة تماما بالبلاستيك ومُقيدة القدمين، بينما نظرة الخوف في عينيها والتطلع إلى المجهول تبدو كأنّها تسكب مشاعر إنسانية متباينة تفيض خارج إطار اللوحة لتمتزج مع مشاعر معظم البشر، وعَبرت في لوحة أخرى عمّا يعانيه الأطفال من خوف وتطلع إلى مجهول يبدو بالنسبة لهم أكثر غموضاً، من خلال طفلين يحيط بهما البلاستيك أيضاً لكنّهما ليسا مغلفين تماماً، بينما نظراتهما تتطلع إلى مجهول خاص بهما.
تقول حسام لـ«الشرق الأوسط» إنّ «أفكار اللوحة تدور حول كون الخوف هو عدو الحياة، فقد أصبحنا مغلفين بالبلاستيك وخائفين من كل شيء، ويصيبنا الرّعب من لمس أي شيء، بعدما سيطر علينا الإحساس بالعجز والتّعامل مع المجهول، وعلى الرغم من حال الخوف التي حاولت رصدها في مشاعري ومشاعر الكثيرين، فإنّني حاولت أيضاً في اللوحة التماس إرهاصات الأمل في أن تُشْفي الطبيعة نفسها من خلال الخلفية التي تظهر فيها نُضرة الأشجار والأغصان».
واضطر الكثير من الطّلاب إلى تغيير خططهم الخاصة بمشروع التَخرّج الذي يشكل تتويجاً فنياً لسنوات دراستهم وفقاً للدكتور إيهاب كشكوشة المدرس المساعد بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، والذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «التغيرات التي فرضها الخوف من فيروس (كورونا) وخصوصاً العزلة والتباعد الاجتماعي، دفعت العديد من الطّلاب إلى تغيير خططهم في مشروع التخرج الذي يعد دائماً مرحلة مهمة في حياتهم الفنية، وبسبب معايشة الطّلاب بأنفسهم لمشاعر إنسانية متباينة في هذه الظروف الاستثنائية، ورصدهم لمعاناة الآخرين حولهم، اتجهوا إلى اختيار التّعبير عمّا يعانيه الكثيرون في الفترة الجارية».
ويرى كشكوشة أنّ «أعمال الطّلاب الفنية تنوعت بين التعبير عن المشاعر المتباينة المصاحبة للوضع الحالي، وبين البحث عن إرهاصات الأمل في أن تنتهي المرحلة الحالية وتعود الحياة إلى طبيعتها».
وتختلف تجربة طلاب السنة النهائية بكلية الفنون الجميلة مع مشروعات التخرج هذا العام عن زملائهم في السنوات السابقة، ليس فقط بسبب الأجواء النفسية والاجتماعية المرتبطة بفيروس «كورونا»، بل أيضاً يتابعون إنجاز مشروعاتهم منزلياً «أونلاين»، حيث حوّلت الكلية كافة مناهجها إلى العالم الافتراضي، إذ يتولى الأساتذة بث محاضراتهم عبر شبكة الإنترنت، فيما يقوم المعيدون بالأقسام المختلفة بتقديم الدروس الفنية العملية تفاعلياً مع الطلاب عبر «الفيديو».
وعكست بعض مشروعات التخرج ارتباك الطلاب أنفسهم نتيجة معايشتهم للعزلة والكبت واضطرارهم لتغيير سلوكياتهم الطبيعية، وعَبر الطالب مينا ميلاد، عن حالة الارتباك في لوحة تبرز تأثر العلاقة بين جواد وصاحبه، إذ تصور اللوحة الحصان ساكناً بلا حركة على الرغم من ارتباط شخصيته بالقوة والعنفوان والحركة الدائمة، بينما ينام صاحبه في وضع يبدو أنه مرتبك وغير مريح، ويتطلع الاثنان إلى بعضهما البعض بنظرات متسائلة حول ما وصل إليه الوضع الحالي.
واختارت الطالبة رولا رضا، الهرب من أجواء العزلة ومشاعرها السلبية والتركيز على مطاردة إرهاصات الأمل في أن تُشْفي الطبيعة نفسها وتعود الحياة إلى سابق عهدها، من خلال لوحة لطفل وطفلة ومعهما قطتهما، حيث تنتشر الزهور ومُفردات مشهد الطبيعة لتدخل من النافذة، وكأنّها تتمدد لتملأ فراغ المنزل.
ويرمز استخدام الألوان القوية الصارخة إلى إبراز قوة الطبيعة وقدرتها على المقاومة حسب رولا رضا، التي تقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ «عملي على اللوحة ومحاولة التّغلب على المشاعر السلبية والتمسك بالأمل مدّني بطاقة إيجابية دفعتني إلى استخدام ألوان مبْهجة وقوية في تصوير الطبيعة، وجعلني أفكر أنّنا لم نتسبّب في الفيروس وليس لنا ذنب في ذلك، ويجب أن نتمسّك بالحياة فهي التي تمنحنا القوة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».