نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

خريطتان لرؤية الوضع على حقيقته

إلى أين ستُفضي التطورات السياسية، التي مركزها إعلان إسرائيل ضم ثلاثين في المائة من أراضي الضفة الغربية؟ للإجابة عن هذا السؤال يتعين علينا رسم خريطتين توضيحيتين؛ الأولى تبين مواقف الدول والقوى من فكرة الضم والإجراءات المنبثقة عنها، والأخرى تبيِّن قدرات الدول والقوى الرافضة في المنع أو الإعاقة.
الخريطة الأولى هي الأكثر وضوحاً من خلال تحديد المواقف المعلنة:
نصف إسرائيل يعارض أو يتحفظ أو يتخوف...
ونصف أميركا الديمقراطي يعارض لسببين عمليين.
الأول لأن الخطة جمهورية ترمبية، والآخر لأن الإدارات الديمقراطية في زمن محاولات السلام هي من رعت العملية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي صاحبة مصطلح حل الدولتين الذي كان عنوان وهدف السياسة الأميركية لفترة طويلة.
العرب وأوروبا وباقي العالم يرفضون ويتحفظون ويتخوفون ويحذرون، والخلاصة أن مواقف الـ«ضد» أكثر عدداً بكثير من مواقف الـ«مع».
الخريطة الثانية وعنوانها القدرات، فقد كانت غائبة عن السياسات الفلسطينية والعربية ومعظم الدولية، ما أدى إلى انعدام فاعلية المواقف وتكرسها كأرقام أخلاقية أو رمزية لا أثر ذا وزن فعلي لها على الأرض.
في أمر الضم الذي حُدد في الأول من يوليو (تموز) لاتخاذ قرار إسرائيلي حاسم بشأنه، يتعين على الفلسطينيين أولاً قراءة قدرات المتحفظين أو الرافضين، كي لا يقعوا في محظور النوم على حرير تفوق الرافضين عددياً على القابلين، وكأن ذلك ضمانة أكيدة لإفشال عملية الضم حتى لو اعترفت بها أميركا.
المثلث الأول الأكثر تأثيراً في مسار الأحداث يتكون من الفلسطينيين والأردنيين والمصريين وثلاثتهم يرفضون الضم ويعدّونه إجهاضاً لحل الدولتين الذي بنيت سياساتهم عليه، وهم في حقيقة الأمر مخلصون في هذا الرفض كموقف، ما يستوجب التدقيق في القدرات.
مصر، التي ترتبط مع إسرائيل بعلاقات دبلوماسية وأمنية واقتصادية، لم تقترب من دائرة التهديد بإنهاء هذه العلاقات التي عنوانها المعاهدة، وهذا ما يهم إسرائيل وأميركا.
تفسير الموقف المصري منطقياً هو أن الدولة الإقليمية العظمى عندما بادرت إلى إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، فقد فعلت ذلك وفق فهمها والتزامها بمصالحها الوطنية بالدرجة الأساس، ورأت أن هذا الصلح الذي كان يوصف بالمنفرد لن يتناقض مع التزاماتها القومية تجاه أمتها العربية وبخاصة الشقيقة الصغرى فلسطين، لذا فلن تفكر في إلغاء المعاهدة وما بني عليها إلا إذا تعرضت هي لإخلال مباشر من جانب إسرائيل بروح ونصوص المعاهدة... إذاً سيظل الموقف المصري مزدوجاً وفق معادلة رفض الضم ومواصلة السعي لإعادة حل الدولتين للتداول من دون المساس بالمعاهدة مع إسرائيل.
الأردن... إن كل ما يصدر عن عمان من مواقف حادة تجاه الضم هو مواقف حقيقية وله دوافع مقنعة على الصعيد الوطني الأردني والعلاقة الخاصة جداً مع الفلسطينيين. كان الرهان الأردني على حل الدولتين هو الأكثر استجابة للمصالح الأردنية من كل النواحي، غير أن تبدد هذا الحل أو استبدال صيغ ذات طابع رمزي كدولة ترمب الفلسطينية به سيثير حتماً مخاوف أردنية متنامية، فمن يعرف حدود توقف التوسع الإسرائيلي واحتمالات التهجير الفردي والجماعي للفلسطينيين باتجاه الأردن؟ كان ذلك مصدر قلق منذ احتلال الضفة وحتى قبل ذلك وسيزداد حين يصبح نهر الأردن خط قتال يسمى دفاعياً وأمنياً لإسرائيل.
الموقف إذاً منطقي تسنده المخاوف الجدية، غير أن العلاقة الأردنية مع طرفي الضم الأساسيين أميركا وإسرائيل تطورت وتشعبت رغم التطبيع الشعبي الفاتر، وإذا كانت العلاقات مع إسرائيل تحتمل اختلافاً عميقاً ومواجهة كما وصفها العاهل الأردني في حديثه مع صحيفة «دير شبيغل» الألمانية، فهي لا تحتمل انقلاباً دراماتيكياً عليها كإلغاء المعاهدة وإلغاء ما بني عليها من علاقات أمنية واقتصادية وغيرها، والأمر هنا لن يظل في إطار أردني إسرائيلي محدد، بل لا مجال لتحييد العامل الأميركي الذي هو أساسي بالنسبة للأردن.
لو كانت السياسة تُصنع بالمواقف لما بقي الصراع العربي الإسرائيلي على حاله، أي ابتعاده عن الحل حتى الآن وإلى أمد بعيد، ولأن السياسة تصنعها القدرات فها نحن نرى ما نرى من ابتعاد متمادٍ عن الحلول المستقرة حتى لو كانت غير عادلة.
الدائرة الأميركية الإسرائيلية في عملية تسجيل المواقف مع أو ضد، تبدو هذه الدائرة منقسمة إما مناصفة وإما هو قريب إلى ذلك.
الدائرة الإسرائيلية تحكم خريطة المواقف فيها ثلاثة ألوان؛ المؤيدون للضم يرون أن فرصة تاريخية سنحت وقد لا تتكرر، وأصحاب هذا اللون يرون أميركا هي العالم. واللون المقابل هو المتحفظ على طريقة الضم، إذ يفضلون أن يتم بقدرٍ من الرضا أو التغاضي الإقليمي والدولي بما في ذلك العربي بالطبع. أما اللون الثالث فهو الذي يرى الضم وفق خريطة ترمب بمثابة تفريط في حق إسرائيل في الأرض من البحر إلى النهر، غير أن محصلة السياسة الإسرائيلية إذا ما استندت إلى تصويت في الكنيست فهي الموافقة على الضم ثم البحث في طرائق تنفيذه على الأرض، وما دامت كل الأرض الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة والموضوعية، فإن تنفيذ الضم مهما استغرق من وقت فلن تتأثر فكرته الأساسية.
وفي إسرائيل يتفق الجميع، من هم مع الضم والمتحفظون عليه، على أن المؤثر الأساسي هي أميركا، فالذين يستعجلون الضم يعملون على الإفادة من إدارة ترمب التي قد لا تتجدد بعد الخريف القادم، والذين يتخوفون منه يتطلعون إلى تحفظ الديمقراطيين عليه، إذاً أميركا هي المرجع الأول والأخير لكلا الطرفين.
والسؤال... ماذا لو فشل ترمب في تجديد ولايته وفاز بايدن؟
في هذه الحالة سوف تجد الإدارة الديمقراطية نفسها أمام واقع مختلف قوامه قرار إسرائيلي نافذ بالضم مع بعض الإجراءات التنفيذية العاجلة، والتزام من الإدارة الآفلة بهذا القرار، وهذا سيضع الإدارة الجديدة أمام حتمية استنساخ خططها القديمة مع تواضع في إمكانيات فرضها، كالإعلان عن أن الحل المنشود للصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو حل الدولتين وأن الوسيلة لبلوغ هذا الحل هو التفاوض، وستعود الدوامة التي دوّخت الجميع إلى العمل ليظهر بايدن كنسخة عن جون كيري وليس عن كلينتون وأوباما، وسيعود السجال إلى المنطقة المفضلة لإسرائيل «الكونغرس»، حيث الفرز الذي تستريح إليه سواء كان نتنياهو رئيساً للوزراء أو كان غانتس.
خلاصة القول إن الـ«مع» والـ«ضد» في معادلة معالجة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ستقود حتماً إلى خلاصة مرئية... لا حسم من قِبل من هم مع، ولا من قِبل من هم ضد، ويظل الأمر الواقع مسيطراً من دون تسويات جدية.