حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الإبداع بعد المأساة!

يوماً ما ستكون «كورونا» جزءاً من الماضي، وصفحة في كتاب التاريخ وقصة تروى. يوماً ما! قصة أخرجت أجمل ما في الناس من تضحيات وعطاء وفداء والتزام، لكنها أيضاً أخرجت أقبح ما فيهم من تنمر وعنف وعنصرية وتمييز. عندما ستزول «السكرة» المصاحبة لـ«كورونا» ستأتي بعدها «الفكرة».
عندي قناعة بأن فترة الحظر التي فرضت على العالم بشكل قسري غير مسبوق، جعلت النفس البشرية «تتأقلم» وبسرعة مع وضع كئيب، فأبدع الناس في إيجاد حلول لتسيير أعمالهم وهواياتهم وتلبية احتياجاتهم بشكل مدهش. لكني أعتقد أن هناك موجة «إبداعية» مقبلة على العالم كنتيجة مباشرة من إلهام «كورونا».
إن أهم الأعمال الإبداعية تخرج من رحم المآسي البشرية، فرائعة الأديب الروسي ليو تولستوي «الحرب والسلام» كانت تجسيداً لقصة إنسانية من خلال مشاهد الغزو النابليوني لروسيا، وهناك رواية «عناقيد الغضب» إحدى روائع الأدب الأميركي للكاتب جون ستاينبيك، والتي تحكي عن المعاناة الكارثية لأسرة زراعية أميركية نتاج الكساد العظيم. وأيضاً هناك الرواية الرائعة للكاتب الأفغاني الأميركي خالد حسيني «عداء الطائرة الورقية» التي تجسد بشكل إنساني بسيط وأخاذ الحرب الأهلية الأفغانية. وهناك إحدى روائع الأديب الأميركي إرنست همنغواي بعنوان «لمن تقرع الأجراس» التي تروي فصولاً دموية من الصراع بعين محب ومشفق.
وهناك رائعة البرت كامو عن الطاعون التي صدرت في عام 1947 بعنوان «الطاعون»، وتولد بعد ذلك قسم في الرواية يسمى بالأدب الروائي الطبي برع فيه لاحقاً مايكل كريكتون وروبن كوك. وهناك العشرات من الأفلام الملهمة التي جاءت نتيجة أحداث عظمى، سواء أكانت حروباً مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفيتنام، أو جائحة فتاكة مثل الطاعون الأسود، والسل، والملاريا، والكوليرا.
الإبداع يعطي للأحداث الكبرى بعداً إنسانياً ملهماً. لم يحسن أحد استغلال ذلك الأمر مثل اليهود الذين تمكنوا من «توثيق» مأساة المحرقة في أعمال روائية أدبية أو سينمائية ومسرحية بشكل مباشر أو غير مباشر لتكون جزءاً مهماً من التراث الإنساني وأساسياً من الذاكرة المجمعة للبشرية.
المرحلة الإبداعية القادمة سيكون أبطالها أعضاء «الجيش الأبيض»، وهو المصطلح المتداول لوصف الكوادر الطبية العاملة في هذه الأزمة العنيفة، ولن يكون غريباً أو مفاجئاً رؤية مسلسلات وأفلام وقراءة روايات تشيد ببطولاتهم وتضحياتهم الملهمة، وهذا سيكون في غاية الأهمية في المرحلة القادمة مع زيادة الاحتياج المتوقعة لاستقطاب أعداد متزايدة من الكوادر البشرية لدخول القطاع الطبي الذي يعاني من نقص شديد حول العالم، وهذا له علاقة بالحاجز النفسي الموجود عند الناس بسبب طول مدة الدراسة والتكلفة الاجتماعية خلال فترة الدراسة. وذلك ما حصل بشكل مشابه في الولايات المتحدة في حقبة الثمانينات عندما كانت القوات البحرية تعاني من قلة الإقبال على الانخراط في خدمتها، فقامت بالمساعدة الكاملة في إنتاج فيلم «توب غن» وتقديم كل الإمكانات ليكون الفيلم محاكياً للواقع تماماً. لقد قدم هذا الفيلم قصة جذابة ومثيرة لحياة مقاتل طيار بحري، وكان نتيجة ذلك ارتفاع الإقبال على التسجيل في الخدمة البحرية وقتها بأكثر من 300 في المائة.
اليوم هناك مثال لافت في العالم العربي على حسن استغلال الدراما، وهو ما يقوم به الجيش المصري لأجل رفع الروح الوطنية وتعزيز الانتماء بإنتاج فيلم «الممر» ومسلسل «الاختيار» بشكل مهني ومحترف يحاكي الواقع الحقيقي للقصص والحكايات.
إننا مقدمون على مرحلة إبداعية استثنائية، فالإبداع يولد من أقصى المآسي الإنسانية، وما يحدث اليوم هو مأساة إنسانية بامتياز.