سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

يا نادين اغفري لهم

قل ما شئت عن فيديو «زرّيعة قلبي» الفرح، المرح، الذي أطلقته المخرجة الموهوبة نادين لبكي تشجيعاً للزراعة الفردية، والعودة إلى الأرض، إلا أن تتهمه بـ«السذاجة»، و«الجهل» و«الطبقية». وثمة من وجد في هذا الشريط، البيئي، الأخضر، الفاتن، الذي لا يتعدى الدقيقتين، وسجّل عن بعد، ما يستحق أن يوسم بكل الموبقات، ويلصق به ما يحلو له من اتهامات، تبدأ بالخبث ومحاباة السلطة، ولا تنتهي بنكران الواقع، والتجني على فقراء الناس، وتجاهل عذاباتهم. ووصل الأمر بأحدهم لأن يصف المخرجة بـ«ماري أنطوانيت التنمية المستدامة» في سخرية من مبادرتها الصغيرة. وهذا كله لا يمكن أن يحتمله شريط فني غنائي، جل ما يفعله هو تشجيع الناس على رمي بذرة في أرض صالحة. وهذا أمر بسيط، إنما له بُعد معنوي، على الأقل، في تعميق إحساس المرء بقيمته الإنسانية والإنتاجية. لكن يبدو أن الريعية والكسب السهل، أفسدا النفوس، وشوها الفطرة الأولى.
نادين لم تخترع العجلة، ولم تكتشف البارود، أو تطرح ما يحتمل حتى النقاش. البشرية كلها تعود إلى الأرض بفعل الاختلال المناخي، وتحنّ إلى الخضرة بعد أن أنهكتها المدنية، ونزح الملايين إلى الحواضر فوجدوها باطوناً وحديداً وبطالة، تاركين الأرض للفراغ والاصفرار. ولبكي قالت في مقابلة لها نشرت في «الشرق الأوسط» إنها تنطلق في هذا العمل المتواضع، من تجربتها هي وزوجها في فلاحة أرض صغيرة، تأكل منها مع عائلتها، وإنها فخورة أن تكون مزارعة.
وكما فعلت المخرجة الموهوبة، ذهب الناس في لبنان، تحت وطأة الخوف من التلوث، والرغبة في العضوي الخالص، إلى الزراعة الذاتية، وغرس الشتول على شرفاتهم، وأمام منازلهم، بتشجيع من جمعيات المجتمع المدني، قبل أن تستفيق الدولة بسنوات، وهي التي وصلت كالعادة متأخرة. كان هذا قبل الانهيار الاقتصادي، وسابقاً على «كورونا» ومشاكلها. أما وإن وطأة تأمين الأغذية، اشتدت على الأمم جميعها، فمن الطبيعي أن تعلو الموجة، ويتحمس الناس. ولبكي مواطنة لها أدواتها التعبيرية الجذابة التي ليست لشخص عادي. وهذا ما يغيظ منتقديها.
ليست المرة الأولى التي يزج فيها بلبكي في أتون النتن السياسي اللبناني، وهي التي أعلنت منذ أن ترشحت على لائحة «بيروت مدينتي» المدنية أنها تواجه الأحزاب التقليدية جميعها، ولا تجد معها أمنها ومستقبلاً لأولادها. وهو ربما ما يشجع على مهاجمتها من كل الاتجاهات، لإحراق فرصها، وكي لا تسوّل لها نفسها، خوض غمار الانتخابات مرة أخرى. من يدري؟ فللمشتغلين بالسياسة أحابيلهم، وخططهم. ويوم فاز فيلمها «كفرناحوم» بجائزة «مهرجان كان»، ساء البعض أن يقال إنها رفعت رأس لبنان، فخرج نائب من «حزب الله» يتهمها، بأن القضية التي تطرحها عن معاناة الأطفال اللاجئين في لبنان، تحابي بها الغرب وإلا لما فازت. ويستكمل هذه المرة الهجوم على المخرجة من الطرف المقابل، على نحو لا يقنع ولا يفهم، معتبرين أنها تريد أن تحل أزمة اقتصادية كبرى بزرع النعنع والبقدونس والفجل. فأي كلام هذا؟ وهل بات المخرجون والكتّاب والفنانون، وزراء تخطيط أم خبراء في الاقتصاد والتنمية الزراعية؟ ألا يحق لفنان أن يدعو مثلاً إلى جمع تبرعات، أو يسهم في دعم حملة إنسانية لمكافحة مرض ما، من دون أن يكون ملماً بنصف العلوم الطبية؟ السلبية في الرؤية إلى الأمور الجميلة التي وظيفتها الوحيدة أن تنعش الأمل، وتجعل الحياة أبهى، وهذا دور الفن، مرض معدٍ. ولولا سلطة الفنون في لبنان وزهوها، لكان الانهيار الاجتماعي أسرع والبشاعة أفدح. نحن نقاوم الأذى منذ سنوات طويلة جداً، بالأغنية والمسرحية، والموسيقى البهيجة، واللقطة الفكاهية، والكلمة الخلاّقة. ومن يحب التصّحر الروحي فذاك شأنه، لكن لا يليق أن يوزع البؤس على من يحتاجون إلى ابتسامة، أو صباح خال إلا من وردة في حديقة.
ولبكي ليست بحاجة لمن يدافع عنها لأنها من أفضل من عبّر وشرح وأفحم. ما يكتب هنا، هو فقط، دفاع عن إنسانيتنا، وحق كل منا في أن يعيش حراً، بعيداً عن التسييس المرير، والتجييش الحزبي، وتوظيف كل شتلة، وشجرة، وزنبقة، وحبة تراب في حروب داحس والغبراء.
أما آن لهذه النزاعات أن تحشر في حلبتها بعيداً عن الذين أرهقهم فيض الجدل العقيم، حول كل شيء ولا شيء؟ ولهذه المبارزات الكلامية السامة، التي لا وظيفة لها سوى هدر الوقت، وتفتيت الجهود، مهما صغرت، أن تتوقف عن تسفيه أي مبادرة معيشية ومهاجمتها والحطّ من قدرها؟ لم أقرأ أن أحداً وسم عمل الجمعيات الفرنسية لزرع الخضراوات على الشرفات وفي الحدائق الخاصة، بأي مؤامرة تذكر. وهناك من يوزع السماد، وأوعية الزراعة ومعداتها، ويمد يد العون.
وهذا له مثيل، في أوروبا على امتدادها، وتونس والأردن، ومصر، وكل جيراننا الذين يدركون أن الحياة ليست مجرد تسنيد حيطان، وانتظار لرزق يهبط من السماء بسلة. والزراعة قد لا تكون مربحة مادياً، أو داعماً منقذاً لاقتصاد ينهار، لكنها حتماً، غذاء للروح، وتهذيب للنفس، وترويض للعجرفة، وحدّ من التشاوف، والتحام شفيف بالوجود. وهذا ما نحن في أمس الحاجة إليه، بعد أن أُنهكنا جشعاً وطمعاً وفساداً.
رجاء، سامحيهم يا نادين، إنهم، حتماً، لا يعلمون ماذا يفعلون!