فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

«غارفينكل» الجائحة والعوامل الجيوسياسية

يحاول الدارسون دائماً البحث عن الآثار التي يمكن أن ينتجها الحدث الضخم، كلٌ في مجاله، ولعل المخاطر التي تسببها الكوارث متشابهة. سرعان ما توظف لاستعمالات سياسية، وتستثمرها منظمات، وتنتفع منها الحركات. ومن أخطر ما يمكن الحديث عنه التوظيف السياسي، أو احتمالات ظهور تحدياتٍ تهدد مؤسسات الدول، وهذا ما بدأت تحذر منه دراسات رصينة تتناول الجوانب الأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية، متسلحة بالطبع بما يكتنزه المجال الفلسفي من ثراء هائل يمكن للباحث الانطلاق منه للخروج عليه. ولفت نظري أن معظم الأطروحات التي اطلعت عليها حول الجائحة لجأت بطريقة أو بأخرى في معالجة الموضوع إلى نظرية فلسفية. تمنح المنعطفات المتون الفلسفية قوة إضاءتها لما تحمله من مقاربات شديدة التماسك حول ما يتعرض البشر من تحديات. هنا الغنى الذي يتمتع به مجال الفلسفة الثري.
مع كل تلك الضوضاء، وبدلاً من الوقوع في فخّ التنظير عن جهل، أو الثرثرة البائسة، نستأنس بإنتاج الحكماء والفلاسفة والعلماء حول هذه الجائحة.
لفت نظري قبل أيام دراسة مطوّلة مهمة لآدم غارفينكل، كاتب العمود المنتظم في مركز «المسبار للدراسات والبحوث»، وأيضاً زميل زائر متميّز في كلية «إس. راجاراتنام» للدراسات الدولية بجامعة نانيانغ للتكنولوجيا في سنغافورة. بها تطرق إلى التسويغ الأخلاقي، وتحديات التدبير السياسي، وتقديرات حول مستقبل البشرية بعد الأزمة، لكنني سأتطرق فقط لما تحدث به عن إمكانيات التغيير الجيوسياسي، أو تأقلم خرائط العالم مع هذه الجائحة، وهي قراءات مصدرها آيديولوجي، واختار لدراسته العنوان الاستفهامي: «نقطة تحول في التاريخ؟».
عرض الباحث لمقولة Nathan Gardels حول تكيف العوامل الجيوسياسية وزعمه «بأن العوامل الجيوسياسية ستتكيف وتتأقلم حتماً مع طبيعة الميكروبات، وليس العكس فقط».
يجادله آدم قائلاً إن «هنالك مشكلة واحدة فقط في التوقع المذكور أعلاه، هي أنه لا يوجد له أساس تاريخي أو سند من التاريخ. وإلا، فكيف تأقلمت العوامل الجيوسياسية بصورة بناءة ومطردة مع جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1919م؟ ومع الحرب العالمية الثانية ومع الهولوكوست؟ وكيف تأقلمت العوامل الجيوسياسية مع الطاعون الأسود أو ما يسمى الموت الأسود في القرن الرابع عشر؟ أو طاعون جستنيان (Justinian’s Plague) في القرن السادس، أو الطاعون الذي ضرب أثينا عام 420 قبل الميلاد؟».
لم تكن الأصولية الإسلامية وحدها في توظيف الظرف الاستثنائي سياسياً، وإنما «أصر العديد من الوعاظ البروتستانت في الولايات المتحدة على عدم التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي، وتجمعوا في الكنائس، حتى إن بعضهم أودع السجن في الحال. وقد رفض حاكم فلوريدا ريك دو سانتيس أن يأمر بإغلاق الكنائس؛ لإدراكه لقوة نفوذها السياسي، فادعى أن إغلاقها يعد خرقاً لحقوق الحرية الدينية. وتم ضبط امرأة داخل سيارة في لانسينغ؛ بعد أن رصدتها كاميرا المراقبة بعد أن حضرت «تجمعاً حراً في ميشيغان» فقالت لرجل الشرطة الذي عاتبها إنها «اغتسلت بدم يسوع». وتجاهل الأرثوذكس اليهود أوامر التباعد الاجتماعي في إسرائيل؛ وليكوود ونيوجيرسي وبوروغ بارك؛ فكانت التكلفة الباهظة هي نقل العدوى والوفيات. وهذا هو نفسه ما قامت به جماعات التبليغ في باكستان وماليزيا».
تأمل الحركات الأصولية والانفصالية أن تمتد هذه الأزمة لاستثمارها بأقصى ما يمكن، إذ تمثل بديلاً لها عن خوض الحرب الميدانية، ويمكنها التعويل على تهشم مؤسسي يضرب كيان الدولة، لذا يحذر آدم في دراسته من انهيار مؤسسات الدول إما بسبب اضطرابات محتملة، أو إنعاش آمال التغيير الاحتجاجي، إذ تهيئ الظروف أسباب الجريمة، يقول بوضوح: «يأمل الشعبويّون (Populists) ومَنْ وَالاهم أن تودي الأزمة بالعولمة، فتجعلها هشيماً تذروه الرياح. وإلى مثل هذا يتطلع الحركيون في العالم الإسلامي، والمتعصبون الدينيون أينما كانوا في العالم؛ وذلك لأسباب تخص كلاً منهم فيما يتعلق جزئياً بما تقدم... ففي استعار أوار القلق والفزع والهلع، يُقْدِم الناس في أغلب الأحيان على اقتراف أفعال متسرعة ومتهورة ومؤسفة. وقد قالت إيلينا بونر (Elena Bonner) ذات مرة إن (الخوف يسدي نصائح سيئة)، وكانت محقّة فيما قالت».
الأزمة اليوم مزدوجة بين السياسي ومجتمعه، ومع كل احتمالات الفشل أو النجاح فإنه يضع مسارين للخروج من الأزمة؛ أولهما اجتماعي: «فإذا سعى الناس أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً إلى التصرف بتناسق وتناغم وانسجام، وإلى اتخاذ التدابير الحكيمة القويمة، يمكن أن نأمل - على الأقل - في أن المعاناة في الأزمة لن تضيع سدى أو تذهب أدراج الرياح». والآخر سياسي: «ولعل أهم ثروة لدى أي أمة في مثل هذه الأوقات، هي أن تكون هنالك قيادة تتصف بالحصافة والهدوء وضبط النفس ورباطة الجأش ومراعاة مشاعر الآخرين، واتساق الذات وتطابق الأقوال مع الأفعال والأهلية والكفاءة والاقتدار».
دراسة آدم غارفينكل مهمة للباحثين المتخصصين في المجالات الفلسفية والاجتماعية والسياسية، إنها تتجاوز اللغة المرهونة بالنجاة أو الغرق، وتضع الجائحة بكل ما تحمله من وقائع ورموز وعلامات على طاولة البحث والنقاش ويربطها بما شهده من البشر من أوبئة منذ 3550 قبل الميلاد. إنها دراسة رائعة تستحق الاطلاع.