حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

العودة إلى الساحات: لا مفر من تغيير أدوات الانتفاضة

تتوالى هذه الأيام الدعوات للعودة إلى الشارع واستئناف الاحتجاجات على الانهيار الاقتصادي والإفلاس السياسي في لبنان والتي أوقفها تفشي فيروس «كورونا» في نهاية فبراير (شباط) الماضي.
عُلقت التحركات الشعبية والمظاهرات المُطالبة بإيجاد العلاج للكارثة الاقتصادية - الاجتماعية التي دفعت الطغمةُ الحاكمة البلادَ إليها، خشية تحول التجمعات إلى حواضن للفيروس ومكان لنشر الوباء. منح التعليق هذا الحكومة اليد العليا لإدارة لبنان إدارة أمنية وفرض حظر تجول عملت في ظلهما (الإدارة والحظر) على تفكيك مخيمات المعتصمين وفتح الساحات مع الاستمرار في استدعاء النشطاء إلى التحقيق واعتقال بعضهم. وبمساهمة نشطة من وسائل إعلام وإعلاميين مرتبطين بأجهزة السلطة، غطّى الاهتمام بالمرض المستجد على تفاقم الصعوبات التي تواجهها أكثرية اللبنانيين في تدبّر عيشها. وبدا أن لبنان، باستثناء سطوة القوة البوليسية والترويج الدعائي للدور الرسمي في التصدي للوباء، خلا من أي مرجع صالح يتابع مصالح مواطنيه المتروكين لرحمة خالقهم.
بيد أن هذه نصف الحقيقة. النصف الآخر منها هو أن الانتفاضة كانت قد بلغت، قبيل التعليق غير المعلن لتجمعاتها وتحركاتها، أقصى ما يمكن أن تذهب إليه حركة سلمية تعتمد على الناس والشارع لإعلان مطالبها، من دون أن تحقق أياً من هذه المطالب أو أن تفلح في فرض تنازل واحد على المافيا السياسية – المالية، باستثناء استقالة حكومة سعد الحريري المهلهلة والمنخورة بالفساد والخلافات الداخلية على اقتسام الغنائم.
انحسار الانتفاضة وانكماش المشاركة الشعبية فيها سابقان على «كورونا» وإن كان المرض قد أعطى مبرراً لانسحاب القسم الأكبر من المواطنين المحتجين من الشوارع. ويرجع الانحسار إلى جملة من المشكلات التي لم يجد المنتفضون حلولاً لها وأفقدتها جزءاً كبيراً من فاعليتها ومن جاذبيتها، بحيث تحولت النشاطات في الأسابيع الأخيرة قبل حظر التجمعات إلى أفعال تذكيرية يُعدها وينفذها شبان تقدَّر أعدادهم ببضع مئات ولا يشكلون عملياً أي خطر على النظام السياسي ولا على التناهب الذي استمرت الفئة الحاكمة بتطبيقه. بل إن سياسيين كانت الانتفاضة قد فرضت عليهم ما يشبه الإقامة الجبرية في منازلهم ومنعت ظهورهم على وسائل الإعلام، عادوا بقوة المال وتفكُّك المحتجين وارتهان بعض الإعلاميين، إلى احتلالهم السابق للفضاء العام.
ويكتنف الدعوات إلى استئناف الانتفاضة الكثير من النيات الحسنة المغلّفة بإحباط عميق من المآل الذي آلت إليه المظاهرات التي لم يشهد لها لبنان مثيلاً منذ استقلاله. كان نزول اللبنانيين إلى الشوارع بتلك الأعداد تعبيراً صادقاً عن رفض المسار الذي فرضته جماعة سياسية تستقوي بتوافقها كممثلة للطوائف وعصبياتها ومخاوفها، وتدير هذا التمثيل وتستغله لتأبيد بقائها في الحكم والاستفادة من امتيازاته ومن عجز القوى غير الطائفية عن إزاحتها. وكانت المظاهرات الضخمة هي الإعلان الأوضح عن الاعتراض على بقاء المواطنين رهائن التسلط الطائفي والسرقة العلنية الموصوفة للمال العام وانسداد آفاق المستقبل أمام الأجيال الشابة من اللبنانيين.
لكنْ بين صدق هذا التعبير وبين تحوله إلى فعل سياسي بونٌ شاسع وشرخ عميق بعمق انفصال النيات الطيبة عن القدرة الفعلية على التغيير. وتفسير ضآلة المردود السياسي لانتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) يُذكّر بصلابة التحالف الطائفي الحاكم للبلاد والمدرّع بحماية مسلحة من «حزب الله» الذي أعلن صراحةً تمسكه بعهد ميشال عون وحكومة حسان دياب بوصفهما الممر الوحيد للخروج من الاستعصاء الاقتصادي والسياسي الحالي، ودفع في مناسبات كثيرة أنصاره للنزول إلى الساحات والشوارع والاعتداء على المتظاهرين السلميين. وغنيٌّ عن البيان أن الحزب ليس العائق الوحيد أمام تقدم الانتفاضة وتحقيقها إنجازات ملموسة، إذ يضاف إليه العجز عن إنتاج قيادة فعلية للحراك والقدرة على استعادة الفئات التي شاركت في الأسابيع الأولى من الانتفاضة بعد تغذية السلطة لدعاية تسلط على سمات طائفية وترويج اتهامات بالعمالة والتخوين ضد الناشطين. يضاف إلى ذلك، بداهةً، تحكم واقع إقليمي غير ملائم للانتفاضة وسط مناخ دولي غير مبالٍ بهذا البلد الذي فقد أدواره ووظائفه في العقود القليلة الماضية.
بكلمات ثانية، قد تعود المظاهرات إلى الساحات بفعل إصرار شباب وشابات لبنان وبأثر الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة، لكن العودة هذه قد لا تُعمر طويلاً إذا لم تجد الانتفاضة خطابها وممارستها القادرين على تشكيل ضغط حقيقي على التحالف الحاكم وإخراجه من الساحة التي يجيد اللعب فيها؛ ساحة الانقسام الطائفي وافتعال الصراعات والتناقضات بين اللبنانيين، وجرّه إلى ساحة التحدي السياسي الذي يتطلب من النظام الاستغناء عن عجرفته واستعلائه على المواطنين وإشراك هؤلاء في القرار السياسي. ولا حاجة للقول إن الخطوات في هذا الاتجاه تستدعي قدراً عالياً من الإصرار والتصميم الذي ربما لا مفر منه أمام تعنت حكم الفاسدين السام.