راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

توزيع المساعدات على الموتى؟!

بداية الأسبوع قال الرئيس نبيه بري لمجموعة من السياسيين، إن عملية إنقاذ لبنان من أزمته المالية والاقتصادية الخانقة باتت صعبة جداً جداً، لكن الحل غير مستحيل، وأنه يقوم على معالجة الأسباب التي أوصلت البلد إلى الإفلاس وليس على معالجة النتائج.
طبعاً هذا كلام يدعو إلى اليأس الكامل، فليس خافياً في النهاية لا على بري ولا على أحد في لبنان تقريباً، أن الحل سيبقى مستحيلاً جداً جداً؛ لأنه يتطلب كما يقول عملية لمعالجة الأسباب قبل النتائج، لأنه عندما نتحدث عن الأسباب، فذلك يعني بالضرورة أنه يجب محاسبة المُسببين؛ ولهذا فالأمر يدعو إلى اليأس، لأن الذين صنعوا كارثة الإفلاس منذ عقدين ونيف، هم الذين يُنتظر منهم الآن أن يعالجوها، فهم الذين يمسكون بالقرار السياسي في البلاد؛ ولهذا فإنهم لن يعاقبوا أنفسهم!
إدوار دانيال من «تاسك فورس فور ليبانون» الذي زار لبنان قبل أكثر من شهرين، وقابل كل المسؤولين على أعلى المستويات، قبل انفجار أزمة تخلّف لبنان عن سدّ ديونه، كتب مقالاً في «ذي هيل» قال فيه، إنه أوضح للمسؤولين في بيروت ما يبدو دائماً كخلاصة للأزمة والحل، «لا يمكنكم تنظيف البيت بالممسحة الوسخة»، لكن يستمر الزعم دائماً أن البيت اللبناني سيتم تنظيفه، لكن الممسحة الوسخة لن تتغيّر حتماً.
ولهذا؛ كان من الواضح جداً أن كل حديث عن معالجة الأسباب التي أوصلت لبنان إلى الإفلاس، بات يفرض تغيير هذا الطقم السياسي، وهذا من المستحيل مع وجود هذا التراكم المزمن في الفساد، وفي عمليات المحاصصة في النهب وسرقة المال العام وتقاسم المغانم.
قبل عامين وسط هياج المسؤولين في السعي لاستثارة الشعبوية، تم إقرار سلسلة الرتب والرواتب التي طال النقاش حولها، ليتبيّن بعد ذلك أن الدولة لا تعرف أن تكاليف هذه السلسلة تساوي مرة ونصف المرة المبالغ التي أقرتها، والأشنع أنها لا تعرف من أين ستؤمّن المداخيل التي ستغطي نفقات هذه السلسلة، واستمرت سياسة النهب، ورغم وجود قرار حكومي بعدم التوظيف مثلاً، قامت قوى سياسية عشية الانتخابات النيابية الأخيرة بتوظيف خمسة آلاف، وخرج الرئيس سعد الحريري من الحكومة ولم يتمكن من الحصول من الوزارات ومؤسسات الدولة، على طلبه تحديد عدد الموظفين فيها، فلبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي لا يعرف عدد موظفيه، ولا ماذا يفعلون، وما إذا كانوا فعلاً يعملون ولهم مهمات ووظائف.
وهكذا يقع الإفلاس ويغرق البلد منذ شهرين، في جدل يقوم على التزوير الواضح، فالدولة بدفع من «حزب الله» تتهم المصارف والبنك المركزي بالمسؤولية عن الأزمة المالية التي وصلنا إليها وتدعو إلى إعادة هيكلتهما، وترد المصارف والبنك المركزي بأن الدولة هي التي تحتاج إلى الهيكلة، وخصوصاً أنها اعتمدت منذ أعوام على البنك المركزي لتسديد ديونها عبر الإصدارات واليوروبوندز، الذي جاء بدوره من أموال المودعين في المصارف، لتسديد هذه الديون والسرقات التي وصلت إلى مائة مليار دولار!
في بداية مارس (آذار) قرر لبنان أن يؤجل تسديد ديونه، وسط جدل طويل عريض رافق ما يسمى «كابيتال كونترول»، حيث إن المصارف فرضت قيوداً على سحب الودائع بالدولار، ثم قيل إن حكومة اللون الواحد التي شكّلها الرئيس حسان دياب تدرس مع عدد من الشركات الغربية بينها شركة «لازارد» اليهودية مسألة معالجة الأزمة، وفجأة ألقيت في الساحة المالية قنبلة «الهيركات»، أي الاقتطاع من الودائع في المصارف، لتغطية ديون الدولة المنهوبة أصلاً، وهو ما أثار غضباً هائلاً إلى درجة استدعت القول إنه لولا وباء «كورونا»، الذي يحتجز الناس في منازلهم، لكانوا خرجوا ليزلزلوا الأرض تحت أقدام الدولة، التي تحاول أن تسطو على ما تبقى من مدخرات عمرهم بعدما تمادت في سرقة المال العام.
أمام هياج الناس وغضبهم تبارى السياسيون وبحماسة مضحكة في الحديث عن حرصهم على ودائع الناس، ومعارضتهم قيام الدولة باقتطاع أي نسبة من هذه الودائع، وعندما استدعى الرئيس ميشال عون سفراء الدول المانحة التي كانت قد تعهدت قبل عامين دعم لبنان بمبلغ 11 مليار دولار مقابل برنامج إصلاحي، سمع هو ورئيس الحكومة، كلاماً واضحاً عن أن أي مساعدة تبقى مرهونة بتنفيذ البرنامج الإصلاحي الجاد والمسؤول، الذي فشل لبنان في أن يلتزم به حتى الآن!
ورغم قول دياب إنه يكاد ينهي وضع خطته الإصلاحية، استمر الحديث عن «الهيركات»، وهو ما دعا بري أخيراً إلى القول «اقروا الفاتحة على هيركات كما على كابيتال كونترول»، في حين استمرت التصريحات المبكية المضحكة عن أن ودائع الناس مقدسة لن يمسها أحد، لكن ليس في هذا سوى الوعود، فقد قال وزير المال في اجتماع الحكومة يوم الأربعاء، إن الفجوة المالية التي تواجهها الدولة الآن تبلغ 56 ملياراً، وأن تسديدها سيأتي أولاً من الدولة ولا ندري كيف طبعاً، وثانياً من أصحاب المصارف، وثالثاً من المودعين بما يعني أن لا مفر من سرقة الناس!
في هذا السياق، يرى البعض أن الحكومة تعد مقلباً لتنفيذ عملية «هيركات» ملغومة، بمعنى أنها قد تقول للمودعين غداً إن ودائعكم محفوظة بالليرة، لكن على قيمة 2600 ليرة للدولار بدلاً من 1507 ليرات، ثم تترك الحرية لحركة الدولار الذي تجاوز قبل يومين 3000 ليرة، بما يعني تالياً أن المودعين سيخسرون أكثر من 50 في المائة من قيمة ودائعهم، وربما أكثر؛ إذ لا حدود واضحة لسعر الدولار أمام هذا الديْن وسياسة النهب والفساد!
ومن الواضح هنا تماماً أن الحملة على المصارف وعلى مصرف لبنان، التي بدأت منذ أربعة أعوام جاءت على خلفية رد «حزب الله» على لائحة العقوبات الأميركية، التي لم يكن في وسع المصارف عدم الامتثال لها، لتواجه مثلاً المصير الذي واجهه «بنك جمّال» قبل شهرين!
ليس سراً أن الكثيرين في بيروت يقولون الآن بعد تصريح بري، الأفضل أن نقرأ الفاتحة على هذه الحكومة الواقعة في سلسلة متواصلة من الأخطاء والانقسامات تقارب الفضائح، رغم أنها حكومة خرجت من صف واحد ولون سياسي واحد، فعلى هامش مساخر الحديث عن الخطة الإصلاحية، لم ينسَ اللبنانيون بعد أنها قررت في جلستها قبل أسبوعين، رغم الوضع الاقتصادي والمالي المنهار، ورغم مطالبة شرائح من الفقراء الذين زادت معاناتهم مع «كورونا» بالمساعدات، أن تخصص مبلغ 650 مليون دولار لسد بسري، ولكأنه سيبقى من يحتاج إلى الماء بعد الموت جوعاً!
وما لا يصدّق أن دياب كان يوم الأربعاء الماضي، يدرس الأسباب التي دعت الجيش اللبناني إلى رفض القيام بتوزيع هذه المساعدات، ولكأن ليس من واجب الحكومة التدقيق في لوائح الأسماء قبل التوقيع عليها، فقد تبيّن للجيش أنها لوائح ملغومة لأغراض السياسة والسرقة ولهذا رفض توزيعها وفق هذه اللوائح!
فقد وردت فيها أسماء موتى ومهاجرين ومجهولي الإقامة وميسورين جداً، يُراد تقديم المساعدات المادية لهم، أو بالأحرى الاستيلاء عليها، وهو ما يشكّل فضيحة الفضائح، في بلد يئن من الجوع ومن «كورونا» والأزمة الاقتصادية الخانقة، وحتى عندما يقرر مساعدة الأشد فقراً، تمتد أيدي الفاسدين لنهب هذه المساعدات!
في هذا السياق، كان من الضروري الثناء على الجيش، الذي رفض المباشرة في توزيع المساعدات بعدما اكتشف هذه الفضائح فيها، وهو ما دعا البعض إلى التساؤل هل هناك محاولة لاستكمال الإطباق على البلد عبر السعي لتشويه صورة الجيش بعد تشويه صورة القطاع المصرفي، ولكأن هناك خطة مبرمجة هدفها تغيير هوية لبنان الاقتصادية وموقعه كدولة عربية مستقلة، يعمل على ربطها بمحور الممانعة، وخصوصاً بعدما حوّلت منبراً مفتوحاً لتوجيه الاتهامات والتهجم على الدول الخليجية والعربية!