جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

جونسون وحكم التاريخ

جميعهم، وعلى اختلافهم وتمايز شخصياتهم، ليسوا في حاجة إلى التصريح، أو التلميح بما يدور في دواخلهم من قلق وتوتر وهم يتخطون بأقدامهم عتبة 10 داوننغ ستريت، ليشغروا، لأول مرة، مكتب رئيس الحكومة. ومع ذلك، فإن فرحة تلك اللحظات التاريخية لا تنسيهم، في ذات الوقت، التفكير في اليوم الذي سيحزمون فيه حقائبهم، ويغادرون المسرح نهائياً، وماذا سيتركون وراءهم من إرث وتاريخ.
ونستون تشرشل قال إن التاريخ سيكون رحيماً به، لأنه هو شخصياً من سيتولى كتابته، ومضى في التاريخ بكونه رئيس الحكومة الذي قاد بريطانيا إلى النصر على النازية.
رؤساء الوزراء الآخرون، أيضاً، فضَّلوا، عقب مغادرتهم، كتابة سيرهم الشخصية بأنفسهم. آخرهم كان ديفيد كاميرون. لكن على الرغم من ذلك، فإنه ذهب في التاريخ بكونه المقامر الذي خسر استفتاء «بريكست». خليفته السيدة تيريزا ماي، والتي، لدهشة الكثيرين، لم تكتب بعد سيرتها الشخصية. لكنها وحتى قبل أن تُدفع قسراً خارج باب المقر، من قبل أنصار «بريكست» في حزبها، الذين هاجموها بشراسة.
من المهم التذكير أن رؤساء الحكومات البريطانيين، رغماً عن برامجهم السياسية وطموحاتهم وبياناتهم، لدى تولي مناصبهم، فإنهم كثيراً ما يجدون أنفسهم وقد تحوّلوا إلى ضحايا، ألقت بهم الأحداث في ضفة بعيدة عما ينتوون، وما يطمحون إلى تحقيقه. وعلى سبيل المثال فإن السيد غوردون براون حين توّلى رئاسة الحكومة عقب سلفه توني بلير تعهد بأنه سيضع نهاية لتوالي دورة الازدهار والكساد الاقتصادية (Boom and Bust). ما لم يكن السيد براون يعرفه هو أن الأزمة المالية الكبرى عام 2008، كانت على وشك الخروج من آخر المنعطفات، والسير باتجاهه. لذلك قضى فترة ولايته في علاج ما أحدثته من خسارات اقتصادية وما تبعها من تداعيات اجتماعية. ولم يشفع له حسن أدائه وتعامله مع الأزمة في أن يذهب في التاريخ، بكونه رئيس الوزراء الذي لم يحقق سوى نصف وعده.
توني بلير كان أطول رئيس وزراء عمالي شغل المنصب، وفاز بثلاثة انتخابات برلمانية، لكنه غادر المنصب، ورغم كل انجازاته، سُجل اسمه في التاريخ مقروناً بأوحال حرب العراق.
نحن في هذا السياق لا نود الخوض في كل ما تركه رؤساء الوزراء البريطانيون من إرث سياسي وراءهم، لكن ذلك كان مقدمة ضرورية للوصول إلى الهدف الرئيس وهو رئيس الوزراء البريطاني الحالي السيد بوريس جونسون، وفي أي منحى سينعطف إرثه، وماذا سيقول عنه التاريخ؟
لا يبدو أننا سنجانب الصواب كثيراً بالقول إننا لا نحتاج إلى الانتظار حتى نهاية فترة ولايته الحالية، المحددة بخمس سنوات، كي نعرف ماذا سيكون إرثه، نظراً لأنه شبه تحدد فعلياً، حسب وجهة نظري، من خلال الأزمة الفيروسية، وسيذكر في التاريخ بأنه رئيس الوزراء الذي أغلق لندن، أو بكونه من أغلق المدارس، التي لم تغلق حتى في فترة الحرب العالمية الثانية.
قبل أزمة الفيروس، كان البعض يرى أنه سيمضي في التاريخ بكونه رئيس الوزراء الذي حقق «بريكست»!
رئيس وزراء بريطاني سابق، في رد على سؤال لصحافي شاب يتعلق بالأسباب التي تدفع بحكومة للخروج عن برنامجها، رد قائلاً: «الأحداث يا ولدي العزيز الأحداث».
والأحداث، عملياً، من أخرج قطار السيد جونسون عن قضبان مساره، وها هو، الآن، يغوص في خضم أزمة لم تشهدها بريطانيا من قبل، وكأنها في حالة حرب، لكن مختلفة لكونها فجائية وضد عدو غير مرئي.
السيد جونسون بدأ عهده في 10 داوننغ ستريت بالاستمتاع بقضاء إجازة أعياد الميلاد في جزر البحر الكاريبي لمدة 10 ايام، للراحة والاستجمام بعد خروجه منتصراً في الانتخابات النيابية، بأغلبية 80 مقعداً، وفوزه النهائي بمعركة بريكست. ولدى عودته للعمل في العام الجديد، كانت الرياح تهب كما تشتهي سفنه العديدة المحملة بالوعود وبالطموحات التي ستقود بريطانيا، ومن دون قيود الاتحاد الأوروبي، إلى ما فقدته من مجد وسؤدد. وتحدد مسار السير للبرنامج الحكومي لتحقيق الآتي: تقليص الهوّة في مستويات المعيشة بين الشمال المتجاهل والجنوب المرفه. وإصلاح الآلة الحكومية الضخمة، وإعادة بناء حزب المحافظين، وأحياء علاقة بريطانيا بالعالم وتوطيدها سياسياً واقتصادياً. وكانت المؤشرات الأولى تؤكد انطلاق الرحلة في الاتجاه الصحيح، لكنها «الأحداث يا ولدي العزيز الأحداث»، جاءته بفيروس كورونا، فاختل توازن الأمور، ووجد نفسه في مواجهة عواصف عديدة، وأمواج لا عهد له بها.
لقد عُرفَ عن السيد جونسون شدة تعلُّقه برئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، وكرس نفسه لتأليف كتاب عن سيرته، ويحب كثيراً الاستشهاد بأقواله، والتشبه بأفعاله، وها هي الأحداث تتدخل فجأة، وكأنها ضربة قدر، لتضعه على رأس حكومة في حالة حرب مختلفة، ولتتيح له فرصة تحقيق حلمه في أن يكون تجسيداً آخر لقائد فريد قاد الامبراطورية البريطانية بحنكة ودهاء، وتصميم وعزم، حتى خرج بها موحدة، ومنتصرة، من حرب كونية ضارية، وضد عدو لا يقل شراسة وخطورة عن فيروس كورونا. فهل يجتاز بوريس امتحان التاريخ بنجاح؟