فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

العلوم والفلسفات في حضرة الملكيات

لا يمكن إغفال دور الاستقرار في الدول ذات الأنظمة الملكية وأثره على دعم العلوم. في عام 1965 حث الأمير (الملك) عبد الله بن عبد العزيز، أحمد الشيباني على ترجمة كتاب كانط الأساسي، وقد كان، فطبعه تحت عنوان: «نقد العقل المجرد» وفي الإهداء كتب: «إلى الأمير عبد الله بن عبد العزيز. العربي فطرةً وأخلاقاً وسلوكاً، أهدي هذا الكتاب»، وهي ترجمة سابقة أشار إليها موسى وهبة في ترجمته الذكية لذات الكتاب تحت عنوان: «نقد العقل المحض». كذلك الأمر لدى ملوك السعودية المهتمين جداً بالثقافة ودعم العلوم، فالملك سلمان أسس ويرأس واحدة من أكبر المؤسسات الثقافية وهي: «دارة الملك عبد العزيز» و«مكتبة الملك فهد الوطنية». والأمير طلال بن عبد العزيز دعم الجابري للاستمرار بالتأليف، والأمير سلطان دعم الموسوعة العالمية لطباعتها عام 1996.
والعلاقة بين الملوك وأرباب الفلسفة والمعرفة قديمة، ومنهم من عمل معهم شخصياً أو بمكتباتهم أو بقصورهم ومؤسساتهم الملكية، نتذكر تجارب ديكارت، وبيكون، وفولتير، وهيغل، وكانط. يمنح الاستقرار لدى الملكيات فرصة الغوص في العلوم الدقيقة ومحاولة إدراك مكنونها وأبعادها.
في المغرب نتذكر الحسن الثاني وعشقه للعلوم والمعارف والفنون بشتى أشكالها، الأمر الذي مهّد لنهضة معرفية وتغيير فكري هائل، فهو المؤسس الحقيقي وباني نهضة المغرب الحديث، وقرّب منه مفكراً كبيراً مثل عبد الله العروي الذي كُلف بمهمات سياسية حول المعارضة المغربية بالخارج، هذه ميزة الملكيات التي تعرف كيف تستثمر بالعقول الاستثنائية.
ثمة دول حاولت الدخول في خط دعم المعارف، ولكنها وطأت لغم الآيديولوجيا؛ حيث دعم القذافي مراكز عديدة بسبب كونها قومية، ودعم النظام السوري مساهمات بالترجمة لاعتباراتٍ ليست معرفية، وإنما لأسبابٍ حزبية، وذلك أعلله بأمرين؛ أولهما، أن اللون المدعوم للمركز والمؤسسات من قِبل تلك الدول متشابه، يجمعهم الجذر البعثي، أو الميول القومية، أو المواقف الآيديولوجية الثورية. وثانيهما، أن تلك المشاريع لم تنعكس على داخل تلك الدول ولا على عقول قادتها، لم يستفد القذافي من دعم مراكز ترجمت أعمالاً لفلاسفة التنوير والحداثة وما بعد الحداثة، كذلك الأمر بالنسبة لمشاريع الترجمة القومية في سوريا... ماذا أثّر على النظام أو عقول قادته دعم ترجمة فاطمة الجيوشي: «القول الفلسفي للحداثة» ليورغن هابرماس؟!
والمملكة العربية السعودية منذ التأسيس عنيت بالثقافة. قرّب الملك عبد العزيز، والملوك من بعده، المثقفين والمطّلعين، واهتموا بالقراءة وترسيخها بين أبنائهم وفي مجتمعهم. وصيّة الملك سلمان الأساسية للجميع: «القراءة ثم القراءة ثم القراءة» ويروي أبناؤه أنهم ومنذ الصغر كان يقرر عليهم الملك كتاباً ضمن وقتٍ محدد، يعقبه نقاش وحوار بين الجميع، والملك شغوف بالمعرفة عموماً، وبالتاريخ بشكلٍ خاص، وقد ورث هذه الخصلة منه أبناؤه، فالأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، مطّلع وقارئ في تاريخ الشعوب، والفلسفات، وأصناف العلوم.
وحين تطالع كتابات المسؤولين ومذكراتهم، وشهادات المقربين منهم، تجدهم على اطلاعٍ بالفلسفات والعلوم، لا يمكنك فقدان طيف نيتشه حين تقرأ للأمير بندر بن سلطان مقولاته حول الخطر من مثل: «أحب انعدام الأمن الذي يحيط بي. إذا جرحتني أنزف. وإذا وجّهت إليّ كلاماً نابياً أنزعج وأتألم. وإذا كان عليّ أن أواجه الخطر أو التحدي، فإننا جميعاً مدرّبون على الخروج سالمين وفعل ما يجب فعله... إنني لست آمناً، وغير آمن، لكنني لا أسمح لانعدام الأمن الذي يحيط بي أن يمنعني من عمل ما يجب عمله». مقولة الأمير هذه تذكّر بمقولة نيتشه: «لكي تجني من الوجود أجمل ما فيه عشْ في خطر»، وغيرها من مقولات الخطر عنده، هذا فضلاً عن اطّلاع الأمير بندر على العديد من الفلسفات السياسية الأوروبية.
والعجيب أن جمال عبد الناصر حين قرأ كتاب عبد الرحمن بدوي المبسط بعنوان «نيتشه» ضمن سلسلة خلاصة الفكر الأوروبي عام 1939 أُعجب بعبارات العنفوان والقوة وأثّرت على شد عزمه (لكن ماذا قدم عبد الناصر للفلسفة؟!)، ولذلك شاهد على لسان عبد الرحمن بدوي في مذكراته «سيرة حياتي».
والملكيات تحترم العلم، ولنتذكر معاً ولع سعود الفيصل بالقراءة والمطالعة، وتقريباً حفظه عن ظهر قلب لكثيرٍ من أدب شكسبير، وأعيد مجدداً وللتذكير ولعضد المقالة ما قاله عبد العزيز خوجة في مذكراته عن اهتمام سعود الفيصل الفكري: «ذات مرة، طلب مني وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أن يلتقي المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فرتّبت ذلك وحضرت لقاءهما، وقد فوجئت بأن الأمير اطّلع بدقة على مشروع الجابري (نقد العقل العربي)، واطّلع كذلك على رد جورج طرابيشي عليه، واستمر النقاش بينهما لساعات، وحين انتهى اللقاء قال لي الجابري: (الأمير سعود الفيصل مثقف فريد من نوعه)».
وقبل رحيل سعود الفيصل كان مهموماً بجمع آراء المفكرين وتأسيس مشروع بوجه التطرف، يروي ذلك تركي الفيصل بمقالة عنه.
في 23 أبريل (نيسان) 1787 كتب الفيلسوف إيمانويل كانط على طرة كتابه «نقد العقل المحض» هذا الإهداء: «إلى معالي وزير الدولة الملكي، بارون تسداتس، صاحب العطوفة، أن يهم المرء بقسطه في تنمية العلوم، معناه أن يعمل لمصلحة معاليكم، لأن هذين الأمرين وثيقا الصلة، لا بالمقام البارز للراعي وحسب، بل بالأحرى بأنس الهاوي والعارف المستنير، ولذا ألجأ إلى الوسيلة الوحيدة التي هي إلى حد ما في مقدوري، كي أعبر لمعاليكم عن امتناني للثقة العطوفة التي تشرفونني بها، بحسباني قادراً على الإسهام في مثل هذا المقصد، وإلى الرعاية العطوفة نفسها التي شرفت معاليكم بها الطبعة الأولى من هذا المؤلف، أهدي الآن أيضاً هذه الطبعة الثانية، وأعهد إليكم كذلك بسائر مصائري الأدبية، وأقدم أعمق احترامي، خادمكم الوضيع - المطيع عمانويل كانط»! ولنتذكر رسالة هيغل للوزير ألتنشتاين منتصف عام 1822 بغية دعمه وتسهيل مشروعه.
لا أقول إن الصيغ هي النموذج، حتى وإن لم يحصل لهم ما حدث لكانط من تعبٍ بعد الطبعة الأولى، وإنما القصد اعتبار هذا المثل فرصة لتعميق التواصل مع الفضاء الملكي المهتم برفيع العلوم والشغوف بمنتخب فنونها.
الملكيات في المنطقة قدمت دعماً هائلاً للعلوم المعارف من دون أي اشتراطٍ فكري أو آيديولوجي مسبق، ولذلك شواهد كثيرة، يمكن لعدد من المثقفين المجربين الحديث عنها.