شموس آفلة تبحث عن مدارات في المنفى

رواية «منشدو كولونيا» لصلاح عبد اللطيف

شموس آفلة تبحث عن مدارات في المنفى
TT

شموس آفلة تبحث عن مدارات في المنفى

شموس آفلة تبحث عن مدارات في المنفى

تبدو الشخصيات الرئيسية في رواية «منشدو كولونيا» لصلاح عبد اللطيف -دار «الكتب خان» للنشر والتوزيع في مصر- وكأنها تبحث عبثاً عن مدارات في قبة الاغتراب المرصعة بـ«النجوم الآدمية» (عنوان رواية سابقة للمؤلف)، ألقت بهم ظروف الحرب والقمع بين رحى المنفى في مدينة الدوم «كولون» الألمانية الشهيرة التي يعيش فيها عبد اللطيف منذ نهاية سبعينات القرن العشرين. ومعروف أن كولون هو الاسم الفرنسي لهذه المدينة الرومانية القديمة التي أراد لها الرومان أن تصبح مستعمرة «كولونيا» لهم في حوض الراين.
يفقد بعض المنفيين في مدينة كولونيا، مدينة العطور، روائحهم مثل البطل السلبي في رواية العطر للألماني باتريك زوزكند. ماذا يبقى من الإنسان حينما يعود بلا رائحة؟ يغرق بعضهم الآخر في دناءته وجشعه، وترتفع رائحته النتنة على رائحة «ماء الكولونيا» التي تعبق بها عاصمة كرنفال الراين.
عمل حسين البحر لفترة منشداً في فرقة الإنشاد العراقية ببغداد، ونراه ينشد مع كل الشخصيات العراقية في كولونيا حياته الماضية، وحياته الحالية، ومصيره، مثل أي أغنية عراقية حزينة. يروون، مرة على ألسنتهم، ومرة على لسان الكاتب، كيف ينخر المنفى فيهم، وكيف تختلف مصائرهم بين التطلع مشدوهين في مجرى نهر الراين السريع في المدينة، والنزول على عمق مترين تحت ترابها.
درس طالب المالكي في البصرة، قبل أن يقوده مصيره إلى ألمانيا، في بعثة دراسية في بداية سبعينات القرن العشرين. يضطر إلى مغادرة ألمانيا إلى ليبيا، بوساطة ابن عمه (رجل الأعمال) المقيم في ليبيا. يستقر في ليبيا، ويتزوج مصرية هي أخت زوجة ابن عمه. وترفض الزوجة منح دروس خاصة لقيادي في حركة «أبي نضال» في ليبيا، فيقرر مقاصصتها. يلفق لها، بالتعاون مع بعض ضباط الأمن الليبي، تهمة التجسس، ولا تنجح الزوجة في حل عقدة حبل المشنقة عن عنقها إلا بوساطة ونفوذ ابن العم. يهاجر المالكي إلى أميركا هرباً من ليبيا، ثم يعود ليلتقي بالآخرين في كولون.
وصل فاضل الأنباري إلى ألمانيا في ستينات القرن العشرين، واضطر للزواج من الألمانية ساندرا كي يضمن إقامته في ألمانيا. يعجز الأنباري، القادم من عائلة فقيرة تسكن بغداد، عن الاندماج في المجتمع الغربي، ويدمن الكحول، وينسى واجباته العائلية، ولا يرى الحياة، بحسب تعبير زوجته، إلا «من خلال الزجاجة». تفشل ساندرا في البحث عن روح فاضل في الصندوق الأسود لحياته المحطمة (التعبير لصلاح)، وتقرر الانفصال عنه.
يزور الأنباري العراق، مع زوجته وابنه المراهق ياسين. يقع الابن ضحية المتطرفين الإسلاميين بعد عودته إلى كولون، ويتحول تحت أنظار أبيه القلقة إلى إرهابي يلتحق بالمجاهدين في أفغانستان، ويلقى حتفه في عملية انتحارية.
بعد طلاقه من ساندرا، يلتقي الأنباري عراقية بعمر ابنته، وصلت ألمانيا بعد أن غرق زوجها في أوديسا التهريب بين بلجيكا وهنغاريا وصولاً إلى ألمانيا. تقترح عليه «زواجاً صورياً» منها كي تبقى في ألمانيا، ويستعيد شيئاً من سعادته، ويخرج من دائرة اكتئابه وعزلته، بعد الزواج منها.
تدرس «ياسمين» في جامعة كولونيا على حساب عائلتها الثرية المقيمة في بغداد. وتعجز العائلة عن مواصلة تمويل دراستها بعد ترحيل عائلتها «بملابسهم فقط»، ضمن حملة تهجير غير حاملي شهادة الجنسية العراقية إلى إيران. ترفض والدتها زواجها من سليم «القصير»، وتضطر للالتحاق بعائلتها في إيران، والزواج من شخص لا تحبه اختارته أمها لها. يفشل زواجها، وتنخرط في أكثر من علاقة جنسية مع إيرانيين آخرين، وتتحطم حياتها.
ربما أن حسين البحر، القادم من النجف، هو أكثر شخصيات الرواية إثارة ومأساوية؛ رجل يدمن الميسر، ويسعى بكل وسيلة وراء المال. يتزوج الألمانية ميلاني كي ينال الإقامة الدائمة في ألمانيا، وينجح فعلاً في تحقيق ثروة من بيع وشراء السيارات المستعملة. صار بعدها العراقي حسين البحر يتبرع للمجهود الحربي الإيراني، ويتقرب من حكومة الملالي في طهران، إلى أن يصبح عميلاً لهم يعقد صفقات السلاح مع الشركات الغربية. يتسلل بعدها عبر السفارة العراقية ببون إلى المخابرات العراقية، وينتهي عميلاً مزدوجاً للطرفين المتحاربين. تتركه زوجته بعد انكشاف دوره لها، ويفقد حياته في عملية اغتيال تطاله في عالم التجسس والعصابات المنظمة والفساد الذي ولجه.
يبدو المثقف الليبرالي سليم القصير أكثر شخصيات الرواية استقراراً ورؤية وقدرة على التكيف مع المنفى، رغم صدمة فقدان ياسمين. وصل القصير إلى كولون في نهاية السبعينات، وعمل في القسم العربي في الإذاعة الألمانية، ومترجماً لصالح سلطات اللجوء، واستقر نفسياً ومعنوياً بعض الشيء.
وفي نهاية الرواية، يلتقي سليم القصير والأنباري والمالكي وزوجاتهم في مدينة كولون، ويرفعون أنخاب «وجودهم» في ألمانيا، بعد أن تعذر عليهم معرفة ما إذا كانوا يعيشون في المنفى أم أنهم يوجدون فيه فحسب.
من الواضح لمن يعرف صلاح عبد اللطيف، أن «منشدو كولونيا» شخصيات حقيقية سبق لها أن عاشت في هذه المدينة واستنشقت عطورها. وربما يكمن هنا نجاح الكاتب في رسم هذه الشخصيات بسلاسة وواقعية كبيرة لا تخلو من شيء من الفانتازيا.
ويمكن القول إن المؤلف بنى روايته بناء درامياً كلاسيكياً أقرب إلى الكتابة المسرحية، بمعنى أنه عرض الشخصيات وصراعاتها وتفاعلاتها بعضها مع بعض، ثم اختتم العمل بكشف مصائر هذه الشخصيات. إلا أنه، كما يقول، فضل أن يقرّب بناءه الروائي إلى «سيناريو فيلم».
لم يهتم الكاتب كثيراً بالخلفيات السياسية لشخصياته، رغم الأجواء السياسية التي تحكمت بمصائر الشخصيات، وانصب اهتمامه على تسليط الضوء على دروب الحياة الشاقة في المنفى، وكيف يشقها كل منفي على طريقته. فجاءت مصائر بعض الشخصيات مأساوية جداً، ومصائر شخصيات أخرى أقل مأساوية، لكنها بقت كلها مأساوية. ثم جاء سرد الأحداث بلغة أنيقة بعيدة عن الاستطراد في متاهات الكتابة، وهذا ما يحقق مقولة الألمان أنها كتابة «بالعظم» لم يكسها الكاتب بكثير من الشحم والترهل.
وفي أحد أجمل فصول الرواية حبكة ودراماتيكية وفانتازية، ينهض حسين البحر من قبره في مقبرة «ميلاتن» في كولونيا، ويبحث بين الموتى عن ظهير له يعينه في الانتقام من قتلته. ينجح في «تجنيد» المغربي فريد لمساعدته في السفر إلى لندن، واختراق صدور من اغتاله بالرصاص. يعود بعدها إلى المقبرة: «فوق مقبرة ميلاتن، حلقت آلاف الطيور المهاجرة إلى جنوب خط الاستواء، إنه الخريف الذي يسبق البرد الأوروبي. ستقطع آلاف الكيلومترات بحثاً عن وطن جديد، كما فعل حسين البحر قبل ثلاثين عاماً. الأسراب الملونة مرت فوق المقبرة أكثر من مرة، أهو أمر مقصود، أهي تودعه وصحبه، وتتمنى أن تراهم في مكان آخر، أم أن اللعبة قد انتهت».
صدرت الرواية عن دار «الكتب خان» للنشر والتوزيع، في مصر، وتقع في 206 صفحات من القطع المتوسط؛ لوحة وتصميم الغلاف للفنان حاتم سليمان.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.