تخيل لو أن المعلقين الرياضيين والجماهير تحدثوا بانتظام بذات النبرة الواثقة ضد العنصرية الممنهجة مثلما يفعلون ضد قرارات حكم الفيديو المساعد (فار)... بالطبع كانت كثير من المشكلات الكبرى قد تم حلها.
ودعوني أؤكد منذ البداية أنني لا أنتهج موقفاً معيناً حيال تقنية «فار». ولو أن لي مثل هذا الموقف، فبالتأكيد لن أعلن عنه. من وقت لآخر، كنت أتعرض لسؤال في برنامج إذاعي أو تلفزيوني يتطلب ضمنياً التعبير عن وجهة نظر محدد تجاه «فار». ومع هذا، تمكنت في كل مرة من التظاهر بالغضب الشديد تجاه التقنية الجديدة، مثلما يتوافق مع المزاج العام.
في الواقع، الأمر بالغ السهولة لو أنك تدربت عليه قليلاً. ولضمان تقديم أداء جيد عليك الحرص على استخدام أكبر عدد ممكن من الكلمات والعبارات التالية: «مايك رايلي» و«ليس هذا الهدف الذي جرت الاستعانة بالتكنولوجيا من أجله» و«قتل العاطفة»، مع الحرص في الوقت ذاته على التحكم في نبرة صوتك بحيث تعكس حمم غاضبة في داخلك. وأخيراً، تطلق زفرة عميقة وكبيرة في الميكروفون تعبر بها عن يأسك وأن الكيل قد فاض بك، ثم تقول بنبرة مسرحية حزينة: «هذا أمر محزن. صدقني إنه كذلك».
في هذه اللحظة، لو أنك أديت مهمتك على النحو الصائب، فإنه يكاد يكون من المؤكد أن شكواك ستنتشر كالنار في الهشيم عبر شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث سيعلق عليها الناس بكثير من الصور التعبيرية الإيجابية والتعليقات من عينة: «جوناثان ليو يقول الحقيقة!!»، أو «هذا أمر كان يجب قوله»، وهي جملة أصبحت تطلق اليوم على كل ما لا يمت للحقيقة بصلة. وفي عصر يكاد يكون الغضب العاطفة الوحيدة المشروعة فيه، يوفر «فار» فرصة مجانية لإطلاق العنان لهذا الغضب دونما عواقب. إنها فرصة لأن تصب جام غضبك على عدو لا اسم ولا وجه له.
أما آرسين فينغر (مدرب آرسنال السابق والخبير في الفيفا) فله اسم ووجه، وفي الأسبوع الماضي تعرض لانتقادات حادة بعدما لمح على استحياء إلى إمكانية إدخال تعديل طفيف على قانون التسلل لتجنب بعض أكثر قرارات «فار» المثيرة للاستفزاز والغضب.
وأعطى المدرب الفرنسي أرسين فينغر، المدير الجديد لتطوير كرة القدم العالمية في الاتحاد الدولي (فيفا)، انطباعا بشيء من الليونة في تطبيق قاعدة التسلل، حين قال في منتصف الشهر الحالي من العاصمة الألمانية برلين إنه «ربما هناك مجال لبعض من التغيير في قاعدة التسلل»، بحيث يسمح للاعب المهاجم بأن يكمل الهجمة من دون أن ترفع راية التسلل «ما دام أن جزءا من جسمه على نفس خط المدافع الأخير». وتنص القاعدة حاليا على رفع راية التسلل إذا كان أي جزء من جسم المهاجم أمام المدافع الأخير.
ومن هذا التصريح يمكن للمرء تخمين أن فينغر ليس من المستخدمين المنتظمين لشبكات التواصل الاجتماعي، ولذلك ليس من المثير للدهشة أنه تجاهل القاعدة الأولى للحديث عن «فار»: أي هناك حلول، هناك مشكلات فقط، فكل ما يتعلق بـ«فار» يوجد في أسوأ صورة ممكنة، ومع هذا أي حل مقترح لن يزيد الأوضاع السيئة سوى تفاقم.
وينطبق هذا القول على عطلة نهاية أسبوع أخرى ببطولة الدوري الممتاز تضمنت حوادث مثيرة للجدل داخل استادات «ستامفورد بريدج» و«تيرف مور» و«كينغ باور»، كان لتقنية «فار» دور البطولة بها. وبطبيعة الحال أثارت هذه الحوادث السيل المعتاد من التنهدات المتحسرة وموجات الغضب المسرحي والموجات المعتادة من الشكاوى والتعبير عن الغضب، كل ذلك في صورة جدال معقد ومحتدم ومستنزف للطاقة يصر جميع المشاركين فيه على أن الأمر في جوهره «بسيط للغاية».
والسؤال هنا: من المستفيد من كل ذلك؟ من ناحية، جميعنا نستفيد من هذا الوضع: فالحديث والجدال وعلامات الاستفهام هي جوهر الأمر كله. ويبدو «فار» عنصراً نموذجياً كبطل لهذه الجدالات إذا ما نظرنا إلى كرة القدم ليس باعتبارها رياضة، وإنما كمسلسل درامي أو منتج ترفيهي، يتمثل هدفه الأكبر في توليد موجة لا نهاية لها من المشاعر وموضوعات للحديث.
من هذه الزاوية، يمكن التأكيد على أن تقنية «فار» حققت نجاحاً مذهلاً، وتمكنت من تحويل حتى أكثر المباريات إثارة للملل والسأم إلى محور مناقشات حية ونابضة بالحياة والإثارة من خلال مجرد إصدار قرار بإلغاء هدف هنا أو هناك. وينطبق الأمر ذاته على مسلسل شهير مثل «لوف آيلاند»، فالهدف الأكبر لا يعدو كونه إثارة موجة مستمرة من الحديث المحموم.
وربما يكمن السبب وراء قدرة أشياء مثل «فار» على استثارة مثل هذه المشاعر القوية أنه يثير في الأذهان شعوراً مألوفاً لدى الغالبية الكاسحة بالانفصال والعزلة عن الحياة الحديثة، بمعنى فكرة أن القرارات التي تؤثر على سعادتك يجري اتخاذها بعيداً عن ناظريك ودون مشاركة منك. مثلاً، زجاجة العصير داخل ثلاجتك تحمل عبارة «أهلاً أيها الجميل!»، ويبدو أن نظام اللوغاريتمات الذي يعتمد عليه موقع «فيسبوك» يعلم على وجه الدقة المكان الذي ستقضي فيه عطلتك التالية، لكنك في الوقت ذاته عاجز عن الحديث إلى إنسان مثلك عندما تجري اتصالاً هاتفياً بالبنك الذي تتعامل معه أو إيجاد حزب سياسي يمثلك عن حق. والآن، ألغى «فار» هدفاً نموذجياً سجله فريقك بسبب لمسة يد! أين من المفترض أن يضع اللاعب يده إذن؟! أين التناغم والاتساق في القرارات؟! لقد ماتت كرة القدم!.
وهنا، لا يمكن للمرء سوى التساؤل فيما بينه ماذا لو أن جزءاً صغيراً فقط من هذا الغضب المشتعل جرى توجيهه نحو المشكلات الأخرى التي تعانيها كرة القدم؛ مشكلات أكثر إلحاحاً، في واقع الأمر: التباين المتنامي في الثروات وملاك الأندية الطفيليين وأزمة التمويل العام والتوجهات الذكورية السامة وتأثير صناعة المراهنة والقمار.
إلا أنه على أرض الواقع هذا حال الكرة الإنجليزية، فهي رياضة وثقافة قامت على أساس المظالم المثيرة للسخرية، والتي يجري النظر في إطارها دوماً لأحدث إهانة تعرض لها فريقك باعتبارها المشكلة الأهم. وفي الوقت ذاته، هناك منظومة معقدة تتشارك فيها رأسمالية القرن الـ21 والمنصات الرقمية لمنح الجماهير منافذ مختلفة ومتنوعة للتعبير عن مظالمهم وسخطهم، لكنها لا تقدم أي شيء على الإطلاق لمحاولة حل هذه المشكلات أو تخفيفها. إنهم حشود من البشر تتحدث دونما نهاية دون أن ينصت لها أحد.
بطبيعة الحال، الأمر أكثر تعقيداً عن ذلك، فثمة صعوبة وراء فرض دقة تكافئ مستوى دقة الجراحين على رياضة دائماً ما اعتمدت قرارات التحكيم فيها على الثقة والشعور والسوابق. في الواقع، من الحقائق التي لا يذكرها أحد أن اللاعب الذي يتعرض لمخالفة بحقه لكن يبقى واقفاً على قدميه لا ينجح في الحصول على قرار باحتساب ركلة حرة من الحكم أبداً. إن أفكار الماضي المشوهة دائماً ما تظهر في طريق التغيير، ويبدو أن الكثيرين يرون أننا كنا أحسن حالاً عندما كان الحكام يرتكبون بعض الأخطاء البسيطة عن حسن نية ولا يسلخهم أحد أحياء بسببها. إن ما نعيشه اليوم باختصار حالة من الفوضى ـ إنها حقاً كذلك.
لماذا التركيز على تقنية حكم «الفيديو» وترك المشكلات الحقيقية لكرة القدم؟
النقاد في إنجلترا أصابوا الشارع الرياضي بحالة من الفوضى
لماذا التركيز على تقنية حكم «الفيديو» وترك المشكلات الحقيقية لكرة القدم؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة