خفة دم المصريين

المصريون دائماً مشهورون بـ«النكتة»، وخاصة أثناء الأزمات، وقد اتضح لي أن خفة دم المصريين حالياً قد جاءت كتراث فرعوني؛ حيث عثر علماء الآثار على العديد من الرسومات الهزلية ممثلة على أوراق البردي وكسر الأحجار والفخار. ومن المثير أن هذه الرسوم ذات الحس العالي من الفكاهة، أو ما يمكن تسميته بـ«النكتة المصورة»، قد أنتجها الفنان المصري ذاته الذي أبدع لنا روائع أعمال الفن المصري القديم على جدران المعابد والمقابر.
ومما لا شك فيه أن الفنان المصري القديم قد استغل أوقات فراغه في تنفيذ مثل هذه الأعمال الهزلية، خاصة المصورة على الحجارة والفخار، وهذه الرسوم ما هي إلا طريقة هزلية يعبر الفنان من خلالها عن الأوضاع الخاطئة في مجتمعه، بالإضافة إلى الأحداث الطريفة التي تفاعل معها الفنان نفسه وأراد التعبير عنها ونقلها للآخرين في صورة فكاهية طريفة.
وعلى هذا، فإن هذه الرسوم تتشابه إلى حد كبير مع ما يسمى في عصرنا الحالي بفن الكاريكاتير، وذلك رغم أنها قد جاءت خالية من النصوص التي تفسرها، وهو ما يحدث غالباً في فن الكاريكاتير.
ومن أطرف الأمثلة التي وصلتنا عن فن الكاريكاتير في مصر الفرعونية، أو ما يطلق عليه الرسم الهزلي، منظر يصور مجموعة من الفئران تشكل جيشاً وتهاجم حصناً للقطط، فنرى الفئران وهي ترشق الحصن بسهامها، بينما تمشي مجموعة أخرى من الفئران مشية عسكرية وكل فأر يحمل درعاً وبلطة ويسير في اتجاه الحصن، ويقود جيش الفئران فأر عظيم الحجم يركب عربة حربية تجرها كلبتان، بينما وقف الفأر القائد بداخلها يرشق حصن القطط بسهامه، ليس هذا فقط بل إن هذه الفئران قد أحضرت معها سلماً لكي تصعد عليه إلى داخل هذا الحصن. وعلى الجانب الآخر، نجد القطط في حالة فزع شديد متحصنة داخل حصنها لا تعرف بأي وسيلة تستطيع بها صد هذا الجيش من الفئران. ولعل هذا الرسم الهزلي على بساطته قد عبر أصدق تعبير عما آلت إليه مصر في فترة من فتراتها الحاكمة، حيث دخلها عدد كبير من الأجانب الآسيويين، وانتشر نفوذهم داخل البلاد حتى أصبح أهلها غرباء، وأصبح الوافدون يعملون كأنهم هم أصحاب البلاد، وهكذا عبر الفنان عن أهل البلاد مصر بالقطط التي استكانت حتى ضعفت وأصبحت عرضة لمهاجمة الفئران، وهم الأجانب. وقد نستطيع أن نستخلص أيضاً من هذا الرسم الهزلي أن الفنان المصري القديم استخدم الرمزية في التعبير عن الأحداث السياسية التي تمر بها بلاده، وهو هنا سبّاق في هذا النهج الذي لا يزال إلى يومنا هذا يتبع في كثير من البلدان ذات الظروف السياسية الخاصة التي قد لا تتيح للفنان التعبير بحرية مطلقة عن أفكاره. وقد يوضح هنا أن الفنان في مصر القديمة كان يرسم على المقابر ما يملى عليه من الكهنة، ولم يكن له حرية التعبير عن أي موضوع ديني، لذلك لجأ إلى الرسوم والكاريكاتير لكي ينتقد المجتمع.