نقاش «البابوية» اللاهوت والإنسان

النقاشات اللاهوتية حول الحقيقة ومداراتها ومآلاتها تزداد راهنيتها اليوم في ظل تعدد وسائل إنتاج الحقيقة، وتضاؤل الدور السلطوي الكنسي لتحديد المفهوم الديني. البشرية عاشت تحولاتها مع تلك المؤسسات والصروح، وأدركت أن معايير اليقين يصعب تحديدها وتعميمها بذات السطوة التي كانت عليها بالماضي.
ولعل فيلم The Two Popes يمثل نموذجاً واضحاً لذلك الاضطراب. وهو فيلم مثقل بنقاش الأفكار، بغية فهم نظرية المعرفة، والتوغل بمعنى الإنسان وعلاقته بالجدوى الوجودية، ومستويات الحقيقة، ودور الدين في توجيهه.
وهناك نقاش لاهوتي طويل داخل الفاتيكان بين بندكتس السادس عشر، والحالي فرنسيس الأول.
منذ انتخابه يبدو البابا بندكتس في حيرة من دوره، ربما اضطرب يقين ما في وعيه، ولم يكن اتصاله كما يروي بحواره مع البابا فرنسيس بالغيب كما كان عليه سابقاً. باشر النقاش مع رفيقه لتعبيد طريق مغادرته من منصبه بسلام، فكر أن مهمته لن تكون سهلة. منذ القرن الثاني عشر لم يقدم على الاستقالة من المنصب أحد، غير أن الضمير الضاغط عليه يشرح الصراع الداخلي، هل شروط هذا المنصب بكل ما تحمله من أعباء وأثقال روحية، يمكنها تحمل الخدوش التي تعرضت لها صروح حقيقته وهو الكبير بالسن المباشر لعلوم اللاهوت ونقاشات الحقيقة ونظريات الفلسفة وجدوى الوجود؟! تلك كانت شرارة الانسحاب.
المفكر الإيطالي نوربير تو بوبيو نيستور كتب: «عدم انحراف العقيدة عن منبعها الأخير كان أكبر درس في حياتي، كان بإمكاني ملاحظته. فقد تعلمت من هذا احترام الرأي الآخر، وعدم الكشف عن السر، وأنه في كل فرد هناك وعي قابع، وأن أفهم قبل أن أناقش، وأن أناقش قبل أن أحكم».
بهذه المقولة دُبجت الترجمة العربية لكتاب: «جدلية العلمنة، العقل والدين» الحوار المشترك بين الفيلسوف يورغن هابرماس وجوديف راتسنغر (البابا بندكتس)، وفي مضمونه حرص الطرفان على إيجاد مسار يمكن النقاش حوله بين الفلسفة والدين، خصص هابرماس مداخلته للحديث عن الأسس القبْلية لسياسة الدولة الديمقراطية القانونية، ويذكر بظروف التغلغل بين المسيحية في الميتافيزيقيا اليونانية والعكس وهذا حمل معه كما يقول: «الشكل الروحي الثويولوجي للعقيدة وهيلنية المسيحية التي لم تنتصر في كل الأحوال، بل شجع كذلك من جهة أخرى على التقريب بين بعض المضامين المسيحية والفلسفة، وقد أرسى هذا التقارب شبكة من المفاهيم المعيارية؛ كالمسؤولية والاستقلال والتاريخ والتذكر والبداية الجديدة، والتجديد والرجوع، والتحرر الجواني والتشخيص، والفردانية والجماعة».
ولكنه بمداخلته مع بندكتس يصر أيضاً على ضرورة أن «يقوم الوعي الديني باللازم بغية إنجاح صيرورة الاندماجية في المجتمع الحديث... ويختلف دور التابع لجماعة دينية ما عن دوره كمواطن ما في المجتمع، وبما أن الدولة الليبرالية في حاجة إلى الاندماج السياسي للمواطنين، وهو اندماج يتعدى نمط العيش، فإنه لا يحق لهذا التمييز بالانتماء أن يؤدي بالإيتوس الديني لتحريف هذا الحق في الاندماج لصالحه». صفحة (60 - 61) من الكتاب.
ويعترف البابا بندكتس في مداخلته التي قصد بها البحث عن أسس توحد العالم، بتطور العلوم، وتعدد مصادر القانون، لذا فإنه يؤكد على الدور الفلسفي في هذا التطور إذ يقول: «لقد استطاع العلم نوعاً ما أن يجيب عن سؤال ماهية الإنسان كإنسان، واستطاعت الفلسفة بالخصوص التي ترافق بطريقة نقدية تطور أجزاء بعينها من العلوم أن تضيء الاستنتاجات المتسرعة لهذه العلوم، والحقائق المغلوطة التي تتوصل إليها حول ماهية الإنسان ومن أين أتى ولماذا يوجد، ولقد استطاعت الفلسفة أن تنقي العلوم من نتائجها غير العلمية التي تطغى عليها في غالب الأحيان، لتصل إلى رؤية شاملة واسعة تتعلق بالأبعاد المختلفة لحقيقة الوجود الإنساني، وهي أبعاد لا يصل العلم إلا إلى أجزاء صغيرة منها».
فيلم النقاش بينهما إنما يمدد الحوار حول الحقيقة والدين والقانون والإنسان، وحرص فرنسيس على نزع غشاوة عين بندكتس عن حيوات الناس وبهجتهم في المباريات بالشوارع والمقاهي، وعلّمه معنى الدخول لطرق حياة الناس العاديين خارج هذه الأسوار، عن تجربته في الحب بمراهقته، وعن أكل الناس وأحاديثهم وهمومهم اليومية.
يحاول الناس الخلاص وإن بالحيل الظريفة، يروي فرنسيس لبندكتس «سأل أحدهم: هل التدخين أثناء الصلاة فعل جائز، قيل له: لا، نصحه صديقه بأن يسأل بطريقة صائبة صيغتها: هل الصلاة أثناء التدخين جائزة؟!».
الفيلم يفتح النقاش حول العلاقات البشرية مع الحقيقة، النص المكتوب والتمثيل وتسلسل الأحداث غاية بالروعة، استحق الترشيح للأوسكار، إنه يضع الإنسان أمام حقائقه وجهاً لوجه.