مراكز فنية في جدة تطمح لتغيير مفهوم وقت الفراغ

من ذكريات أعوام مضت في أحد المقاهي بمدينة جدة، توقفي أمام رف متواضع وضعت عليه بعض الكتب باللغة الإنجليزية، روايات على الأغلب. غالبتني الدهشة والفرح لرؤية تلك المجموعة من الكتب، الموضوعة في أحد أركان فرع لمقهى ستار باكس في جدة. فرحت بالفكرة، وأطلقت عدداً من الأسئلة المغلفة بالفرح للعاملين في المكان، الذين قالوا لي وقتها إنها محاولة لجعل المكان مريحاً للراغبين في القراءة ورشف القهوة. وقتها انتابني إحساس جميل بالتغيير المنعش، فالمقاهي الأميركية كانت قد بدأت في نشر أفرعها في جدة، جالبة معها نمطاً مختلفاً لطقوس تناول القهوة، وبدا لي أن ذلك التغيير قد يكون بداية لشيء أكبر قد يزدهر ويخلق أماكن لطيفة لقضاء وقت ممتع خارج الأماكن المعتادة والمحدودة جداً وقتها.
بعد نحو 15 عاماً، وجدتني أتذكر ذلك اليوم حين وجدت بعض الكتب الوحيدة المتناثرة في ركن مقهى (مركز فني) في جدة. الفرق بين تلك اللحظة البعيدة وبين لحظتي هذه كبير جداً، لكن كانت هناك بداية، وجدت استمرارها هنا. المكان الحالي يحمل عنواناً جاذباً، وهو «أرباب الحرف»، هو أيضاً يطلق عليه البعض مسمى مقهى، يقدم شطائر الكعك والقهوة بنكهاتها الحديثة وأسمائها المختلفة، لكن هنا تنتهي كل أوجه الشبة مع المقاهي، وتبدأ الاختلافات التي تصنفه مركزاً فنياً وثقافياً. مقهانا هذا يبدأ بطاولات محدودة متناثرة، يقوم شاغلوها بطلب قهوتهم المفضلة مع ما يروق لهم من الكعكات والشطائر ليتناولوها على طاولاتهم، لكن الأجواء حولهم تحمل أكثر من ذلك. جلست وصديقتي على إحدى الطاولات نرتشف من فنجاني كابتشينو، ولفتت نظرنا أرفف على الحائط بجانبنا، عليها عدد كبير من الكتب المختلفة، كثير من الروايات، وأغلبها باللغة العربية، لفتت صديقتي انتباهي لرواية منها، قالت إنها رواية جيدة لكاتبة سعودية، وإنها حضرت جلسة لمناقشتها في نادٍ أدبي شهير. الحديث أخذنا لعدد آخر من الكتب الموجودة هنا والروايات الأخرى الموجودة أمامنا.
التفت لشاب سعودي يعمل في المقهى وسألته عن الكتب، قال إن رواد المقهى يمكنهم تصفحها وشراؤها، وهناك من يتبرع بكتبه بعد الانتهاء منها لتصبح مورداً لغيره، فيما يسميه «ركن الكتب المهداة». الشاب اسمه «عامر العوني»، يبدو مليئاً بالحيوية، ويصرّ على أن أقوم بجولة في المكان، مشيراً إلى أن هناك كثيراً من الجوانب للمكان: «هنا مثلاً ركن لبيع المنتجات المصنوعة محلياً، وفي الدور الأعلى أنشطة أخرى». نمضي للدور الأعلى، لنرى أنشطة أخرى في المكان، السلم الواسع يحمل رسومات ملونة، ومنه نصل لمساحة واسعة بها طاولات ومقاعد، وتمثل أركاناً مختلفة. في أحد الأركان تجلس سيدة سعودية تبدو كمن ينتظر آخرين. تبتسم لي، ونبدأ في حديث حول المكان، وتقول: «مكان لطيف، أليس كذلك؟». أجيبها: «لطيف ومختلف أيضاً». توافقني الرأي، وتبدأ في الحديث عما يجذبها للحضور إليه. هي هنا لحضور فصول تدريس اللغة الفرنسية: «اشتركت في فصول مختلفة للغة الفرنسية في أماكن مختلفة، لكن الميزة في هذا المكان أنه تلقائي ومجاني، كما أن المدرس ماهر بالفعل، ويساعدني على الفهم والتحدث بالفرنسية». تتناهى إلى سمعي دقات بيانو، وألتفت للخلف، وعبر حاجز زجاجي أرى سيدة تعزف على آلة موضوعة في ركن آخر، يجذبني الفضول مرة أخرى لأعرف أن المكان، أو لنقل «المركز الثقافي»، أيضاً يقدم فرصة لمن يرغب في تعلم العزف على البيانو، وأيضاً آلة العود. وبالفعل بعد دقائق يبدأ 4 أشخاص في الانتظام مع معلمهم في تعلم العزف على العود. رغم أن المكان لم يكن مزدحماً، لكن كان هناك أفراد مختلفون في كل ركن منه، أتخيل المكان في نهاية الأسبوع أو العطلات، من المؤكد أن الحضور سيكون واضحاً.
أسأل عن مالك المركز، ويرشدني الشاب عامر إلى عبد الله الحضيف، وهو مالك المركز، وأجدها فرصة لأوجه له كثيراً من الأسئلة التي جالت بخاطري.
الحضيف يبدو قليل الكلام، لكنه يخبرني أن المشروع بدأ منذ 4 أعوام: «الفكرة بدأت من 2016 بعد عودتي من أستراليا، لم يكن عندنا مكان يلتقي فيه الشباب (لقضاء وقت فراغ مفيد) لم أجد مكاناً أحبه أنا شخصياً، فأنا أحب الفنون، وبالتالي فكرت في عمل مكان يجمع الشباب والفتيات بمنطق الثقافة والفن، ليس غاليري أو معرض صور فقط، أردته مكاناً يجمع الكل». البداية كانت عبر التواصل مع الفنانين والكُتاب، يشرح لنا: «خاطبنا الفنانين والكُتاب، ووجهنا لهم دعوات للحضور للتحدث عن كتبهم وأعمالهم، كنا نقول لهم (تحدث عن كتابك أو أعمالك)، كان الحضور قليلاً، 4 أو 5 أشخاص في البداية، وبعد ذلك صار عندنا 6 مجالس، وأصبح الحضور كبيراً، وكان التعطش كبيراً، ثم انتقلنا لمقرنا الجديد هنا».
المعروض في المركز هنا من لوحات وأعمال فنية ومنتجات يدوية كلها صناعة محلية، يضيف: «كل شيء عندنا منتج محلي، سواء الأعمال أو اللوحات، لا نتعامل مع شركات تجارية، فالمنتجات الفنية مصنوعة باليد، وندعمها».
أسأله إن كانت المنشأة تجارية، ويقول: «كان لا بد لنا لافتتاح المكان من إصدار سجل تجاري، لكننا مؤسسة غير ربحية، نتحدث عن بيزنس تشاركي، نعرض الأعمال ونأخذ نسبة من المبيعات».
بالنسبة لـ«أرباب الحرف» فإن تصنيفه يبدو مختلفاً، فالبعض يراه مقهى له ملحقات ونشاطات أخرى، لكن ردة فعل الجمهور كانت مشجعة، حسب ما يذكر الحضيف، «ردة الفعل من الجمهور أجمعت على أن المكان به طاقة جميلة».
يحرص الحضيف على الإشارة إلى أن نشاطات مركز «أرباب الحرف» لها أفرع، متمثلة في 3 بيوت في منطقة البلد التاريخية، وأتركه يشرح لي أكثر: «اشتريت 3 بيوت في المنطقة التاريخية، أولها في شارع أبو عنبة في مدخل البلد، أطلقنا عليه اسم (بيت زرياب)، وهو مدرسة شرقية للموسيقى؛ حيث نقدم فيه دروساً موسيقية. وهناك أيضاً ما أطلقنا عليه اسم (بيت الحضيف)، به 16 غرفة، ورممته وعملته مقراً للحملات الفنية، التي نقوم بها في غرف بالطراز الحجازي القديم. عندنا أيضاً (متحف الحضيف) الذي نوفر فيه برامج إقامة فنية واستديوهات للفنانين».
بالنسبة للحضيف، كانت الفكرة هي إنشاء أماكن يستطيع الشباب الذهاب إليها للاستمتاع والاستفادة: «أهتم بجودة الحياة، لا أؤيد أن يضيع يومي على مقهى أو في تدخين الأرجيلة، أو الأكل أو الذهاب للسوق، أريد أن يكون يومي به قراءة كتاب أو سماع موسيقى أو حضور مناقشة».