قراءة هادئة في العلاقات السعودية ـ الأميركية

كانت محقة السفيرة السعودية لدى أميركا الأميرة الفاعلة ريما بنت بندر عندما أشارت إلى أن «أكبر تحدٍ يواجه المملكة في الولايات المتحدة هو تغلب الصورة النمطية وإصدار الأحكام المسبقة حيالها». أتصور لكي تنجح مسألة تغيير الصورة أنها بحاجة إلى عمل تراكمي مضنٍ واستراتيجية مدروسة وجهد ضخم وعملي، لأنه يتداخل فيها السياسي مع الثقافي. مساهمة شرائح متنوعة يحقق الهدف ويوصل الرسالة باحترافية، كقيام مؤسسات المجتمع المدني بزيارات لأميركا، فضلاً عن تفعيل الدبلوماسية البرلمانية، وإيجاد مراكز بحثية متخصصة، ناهيك عن زرع لوبيات مؤثرة في مواقع صناعة القرار الأميركي.
على أي حال، يجب أن نعترف أن الرياض وواشنطن استطاعتا خلال العقود الماضية تجاوز كثير من فترات التوتر والفتور والأزمات الصعبة، لأنه كان من غير المعقول أن تفرط الدولتان في علاقة استراتيجية تجاوزت 7 عقود، الجديد فيها أنها أصبحت لا تنتظر إشارات حسن نوايا أو علاقات عامة، بل اتجهت لعمل مؤسسي مشترك ومستدام لتحقيق الأهداف. جهود كبيرة بذلت من كلا الطرفين في السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما ما ساهم به ولي العهد السعودي للدفع باتجاه إعادة صياغة العلاقة وترتيب الأولويات وحلحلة الملفات، ليُعيد الأمور إلى نصابها. 75 عاماً مرت على اللقاء التاريخي بين الملك المؤسس عبد العزيز والرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت على متن السفينة البحرية «كوينسي»، فكانت لحظة تاريخية أسست لما بعدها.
اليوم نلمس مؤشرات إيجابية للسياسة الأميركية في المنطقة، ومع ذلك نحن لا نتوقع أن تكون علاقات البلدين دائماً وردية، وليس بالضرورة أن تكون كذلك، ومن الطبيعي أن تكون هناك وجهات نظر مختلفة، لكن من المهم أن تستمر الاتصالات والحوارات واللقاءات.
الذاكرة تقول لنا إن واشنطن في تلك الحقبة سلمت العراق وأفغانستان على طبق من ذهب لإيران وشهدت تراجعاً في حضورها في ظل حضور طاغٍ للدبلوماسية الروسية. في الحقبة الأوبامية لم تلتزم الولايات المتحدة بتنفيذ وعودها، والأسوأ من هذا كله الانبطاح الأوبامي أمام نظام الملالي، فهل كانت العلاقات السعودية - الأميركية تتجه نحو القطيعة كما ردد البعض آنذاك، أم أن العلاقة البراغماتية المرتبطة بالمصالح هي التي أنقذت العلاقة؟
الأحداث والمواقف كانت كفيلة بالإجابة. وفي كل الأحوال ظلت السعودية تملك قرارها السيادي، ولم تتردد في مطالبة واشنطن بمراجعة سياساتها وإعادة النظر في تعاطيها مع ملفات المنطقة من منظور شمولي، وليس ذا توجه اختزالي في جزئيات بعينها، لمواجهة التحديات والمخاطر التي تواجهها دول الخليج.
خلال فترة أوباما بادرت مجموعة خبراء من الحزبين لتشكيل لجنة مشتركة لإعادة صياغة أسس السياسة الخارجية الأميركية. تزامن ذلك مع صدور تقرير مهم عن مركز التقدم الأميركي أثار جدلاً واسعاً بعنوان «الاستفادة من نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط - خطة لتعزيز الشراكات الإقليمية» جاء فيه أن لواشنطن مصالح في المنطقة، وعلى البيت الأبيض أن يتخلى عن أسلوب إدارة الأزمة، بالانتقال لمفهوم القيادة الفاعلة، ما يعني الانخراط في منطقة الشرق الأوسط عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً.
اليوم قواعد اللعبة الدولية تغيرت، وهناك تموضع جديد للسياسة الدولية في المنطقة. علاقة الرياض وواشنطن في أحسن حالاتها، كونها تنطلق من أرضية تاريخية راسخة عبر تفاهمات واضحة. أدركت الإدارة الجديدة أنه لكي تنجح في المنطقة فعليها أن تقرأ المشهد جيداً وتلتزم بتنفيذ تعهداتها، وأن تُميز ما بين الصديق والحليف والعدو.
قبل أيام، سئل الوزير بومبيو في هذه الصحيفة عن تقيّيمه للتعاون الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، فقال: «السعودية شريك موثوق، وتلعب دوراً محورياً لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وسنحافظ على هذه الشراكة الاستراتيجية المهمة بين بلدينا. ويجب أن نتذكر أنه على مدى 75 عاماً، كانت السعودية شريكاً قوياً في تحقيق الأهداف المشتركة في منطقة الشرق الأوسط. الدبلوماسية السعودية اليوم فاعلة، وتقود مواجهة وفضح المشروع الفارسي التوسعي، وتترأس التحالف الداعم للشرعية في اليمن، وأنشأت تحالفاً إسلامياً عسكرياً لمكافحة الإرهاب، وشاركت في التحالف الدولي بالحرب على (داعش)».
الظرف ودقة المرحلة يحتمان على البلدين ضرورة التنسيق والتعاون، لأن أحدهما بحاجة إلى الآخر، فهما معنيان بأمن الخليج ومواجهة الإرهاب وتهديدات إيران العدوانية وأذرعها الإرهابية. وإجراء مناورات بحرية سعودية - أميركية هذا الأسبوع في الخليج العربي على سبيل المثال ليس عبثاً، بل يحمل رسالة سياسية.
ليس سراً أن هناك أطرافاً وجهات لا ترغب في التقارب السعودي - الأميركي، لأن ذلك لا يصب في مصلحتها، كاللوبي الصهيوني والإيراني والتركي وجماعات الإسلام السياسي. تلك الأطراف لا تنفك تحاول دق إسفين بين البلدين عبر أساليب قديمة لم تعد تنطلي على أحد. غير أن تصريحات المسؤولين في كلا البلدين لا تلبث تحبط المتربصين، ما يعني وجود تفاهمات شفافة بينهما، على قاعدة الصراحة والندية والاحترام. كانت وما زالت البراغماتية هي العنوان الكبير لتلك العلاقة.