الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

مهمة انتحارية لحكومة عادية

مثل محاولة انتشال غريق من قعر المحيط تبدو مهمة حكومة الرئيس حسان دياب. لا شك أن الرجل كما أعضاء حكومته يدركون حجم هذه المسؤولية الصعبة. فقد كان دياب صريحاً في حديثه عن الوضع الذي يمر به لبنان وتأكيده على خطر الانهيار الشامل إذا لم تتم المعالجة بإجراءات سريعة ومؤلمة، وتشبيهه الأزمة بـ«كرة النار المتدحرجة».
يمكن وصف أعضاء حكومة دياب بمجموعة من الانتحاريين، إذ من الذي يقدم على تحمّل مسؤولية بهذا الحجم وعلى هذه الدرجة من التعقيد في مرحلة يصح وصفها بالتاريخية إذا لم يكن انتحارياً، أو ساعياً وراء كرسي حول طاولة مجلس الوزراء لم تكن لتتوفر له في ظروف طبيعية أخرى؟
لو أردنا افتراض النوايا الحسنة، واعتبرنا أن هؤلاء السيدات والرجال في هذه الحكومة هم الانتحاريون الذين أقدموا بشجاعة على معجزة الإنقاذ هذه، وهم الذين كان البلد يبحث عنهم لتحقيقها، يبقى السؤال عما إذا كانت الأدوات الضرورية لإنجاح مهمة الإنقاذ في متناول أيديهم؟
كيف يمكن الإنقاذ في بلد منقسم على ذاته كما هو حال لبنان اليوم، ليس فقط بين سياسييه، بل بين مؤسسات الدولة، بما فيها هذه الحكومة، ومعظم فئات الشعب، فيما كانت مرحلة مثل هذه تحتاج إلى التفاف وطني بحيث يتكتل الجميع داخل حكومة وحدة وطنية لا يكون همها سوى الانكباب على مهمة الإنعاش الاقتصادي وإصلاح الوضع المالي.
ولكن من أين يأتي الالتفاف الوطني فيما القوى السياسية يتربص بعضها ببعض، وينتظر كل منها فشل الفريق الآخر ليستثمر فشله في التنافس على الزعامة والقوة الشعبية؟ ومن أين يأتي الالتفاف الوطني فيما آثار النزاع العميق بين السياسيين الذي وصل إلى حد الاغتيالات، كما تذكّرنا مناسبة 14 (فبراير) شباط اليوم، لا تزال طرية في الأذهان، ومرتكبوها فالتون من العدالة، ويشارك بعض المسؤولين عنهم في الحكومات ويتمثلون في مجلس النواب؟ ومن أين الالتفاف الوطني، فيما البلد يعاني من موجة تسونامي طائفية لم يَعرف مثيلاً لها في أحلك أيام الحرب الأهلية، وصلت إلى حد أن أحد النواب، من ممثلي الشعب، لا يتردد في الاعتداء على مواطن، لأنه كان يتناول الطعام في منطقة لا ينتمي أكثر أبنائها لطائفته؟
الأزمة التي يواجهها لبنان عميقة ومتشعبة الأسباب. ومن الإنصاف القول إن الحلول التي يقترحها حسان دياب، كما فصّلها في بيانه الوزاري، هي حلول تنتمي إلى الصفة العملية، محددة بنقاط واضحة وبمهل زمنية للتنفيذ، تتراوح بين مهل سريعة لا تتعدى المائة يوم، ومهل أبعد مدى تصل إلى ثلاث سنوات.
ولكن هذه الحلول كي تنجح تظل في مواجهة وقائع ثلاثة على الأقل؛ أولها افتقار أعضاء الحكومة إلى الخبرة السياسية اللازمة، باعتبار أكثرهم من الأكاديميين الذين لم يتمرسوا سابقاً بالعمل السياسي، كما يفتقرون إلى القدرة على فرض الحلول، التي لا بد أن تكون مؤلمة في هذه المرحلة، نتيجة عدم تمتعهم بالقاعدة الشعبية التي تحصن قراراتهم وتجعلها سهلة الهضم على المواطنين. وفوق هذا طبعاً هناك التهمة التي يوجهها الحراك الشعبي لرئيس الحكومة وأعضائها، بأنهم محسوبون على القوى السياسية التقليدية التي يتظاهر الحراك لإسقاطها، أي أن حكومة دياب تحاول إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة الجديدة بعد تلميعها بوجوه عادية. من هنا كانت المظاهرات الواسعة يوم انعقاد الجلسة النيابية للتصويت على الثقة بالحكومة تحت شعار «لا ثقة».
العقبة الثانية التي تواجه الحكومة سوف تكون أمام امتحان الحصول على الدعم الخارجي. فمن دون مساعدة المؤسسات الدولية المانحة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعدد من الحكومات الأوروبية، يبقى التخوف من أن تبقى خطط الإنقاذ حبراً على ورق، في ظل عدم القدرة على تمويلها. وفي بلد وصل فيه حجم الديْن العام إلى حدود المائة مليار دولار، فيما تدفع نصف إيرادات الخزينة لسد فوائد (فقط فوائد) هذا الديْن، لا بد أن تكون شروط المساعدات الخارجية صعبة، بل مؤلمة. كما أن عدم قدرة لبنان على سداد ديونه في أوقاتها المستحقة يعني إعلان إفلاسه، وخسارة الثقة بوضعه المالي وبقطاعه المصرفي.
يضاف إلى هذا طبعاً التصنيف السياسي الذي يطغى على صورة هذه الحكومة، التي جاءت ممثلة ومرتبطة بفريق واحد، هو الفريق المهيمن على السلطة، نتيجة التحالف بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، ومعهما حركة «أمل». وفيما يصر رئيس الحكومة على أن حكومته «غير مسيّسة» على رغم الأهواء السياسية لأعضائها، تبقى ضرورة اقتناع الدول التي ستقدم المنح والمساعدات بذلك، فيما يشتد الحصار الغربي حول إيران، وبالتالي على «حزب الله».
العقبة الثالثة التي سوف تواجه أي عملية إصلاح اقتصادي ومالي هي غياب الثقافة الوطنية التي تضع المصلحة العامة فوق المصالح والمنافع الفردية والخاصة. ويستوي في ذلك المسؤولون والمواطنون. التضخم غير الطبيعي وغير المجدي في القطاع العام نتيجة التوظيفات العشوائية، ثقافة الرشوة السائدة التي يقبل عليها اللبنانيون لإنجاز معاملاتهم الإدارية من دون احتجاج، الفساد المعمم في كل المجالات، النهب المتبادل الذي يمتد إلى كل قطاعات التعامل اليومي، التهرب من الالتزامات الضريبية، كل هذه آفات تراكمت وأدت إلى إيصال البلد إلى حالة الإفلاس.
لذلك ليس من المبالغة القول إن المسؤولية عن الوصول إلى هذا الوضع البائس هي مسؤولية مشتركة. وبالتالي فإن تحمّل أعباء الإنقاذ لا بد أن يكون مشتركاً. ليس هذا فقط. بل الأهم أن تتغير العقلية التي تدفع المواطن اللبناني إلى التعامل مع كل ما يتصل بالمال العام على أنه محلل للنهب. وهذه عقلية، كما سبق القول، لا تقتصر على السياسيين، بل تشمل أكثر العاملين في مجالات الخدمة العامة، الذين لا يرون في وظيفتهم أكثر من مصدر للانتفاع الشخصي ونهب الثروة بأسرع ما يمكن.
مهمة انتحارية أمام حسان دياب وحكومته. لكنها بحق مهمة الإنقاذ الأخيرة. لقد ولّى زمن منح الفرص لبلد لا يعرف كيف يستفيد منها.