المتحف اليتيم

كنت وأنا في لندن أشعر بين حين وآخر بالحنين إلى العراق وبغداد. أحجز مكاناً لي في إحدى الطائرات وانطلق إلى مطار بغداد الدولي. أركب سيارة تاكسي وأنطلق إلى المدينة. ولكن لا يتقدم التاكسي في سيره غير بضعة أمتار حتى أواجه هذه البوابة العظيمة والشامخة التي يتجاوز ارتفاعها عشرات الأمتار وعرضها مثل ذلك. تلفت نظري بزخرفتها الفسيفسائية الرائعة وما تصوره من حيوانات، غزلان وضباع وسباع ونحو ذلك. سألت عنها فقيل لي إنها بوابة عشتار، إلهة الحب والجمال البابلية. وكانت البناية مهيبة غير أنها تلفت النظر لا بروعتها وإنما بإهمالها وتعاستها.
كانت القمامة والأزبال تحيط بها، بل كان بعض الناس يستعملونها كمرافق عامة يتبولون حولها. أمر عجيب يسترعي النظر والتفكير فسألت عنه واستقصيت.
عندما تأسست المملكة العراقية عام 1920 جاء الملك فيصل الأول، رحمه الله، بعدد من العلماء والمثقفين السوريين. كان بينهم ساطع الحصري، أبو خلدون. وكان هذا من المتحمسين للقومية العربية. جاء إلى بغداد وهاله ما وجد فيها من التأخر. أين ذلك التراث الذي يتحدثون عنه؟ دَلّوه على المتحف العراقي في جانب الرصافة. وكان هذا المتحف المتواضع قد شيّدته وغذّته المستشرقة والدبلوماسية الإنجليزية الشهيرة غرترود بيل في أثناء الانتداب البريطاني على العراق.
شَقّ على ساطع الحصري أن يكون هذا المتحف المتواضع هو كل ما يمكن للعراق أن يعتزّ به. وعزّ على هذا الرائد القومي أن يكتفي العراق بما خلّفته فيه امرأة إنجليزية. عقد العزم أن يقيم متحفاً جديداً جديراً بتاريخ البلد وفي موقع يستقبل فيه الوافدين لبغداد بدءاً من جانب الكرخ. استطاع أن يقنع وزير المالية اليهودي بأن يخصص للمشروع ما يلزم من مال.
شرعوا في العمل ببناء بوابة عشتار. بيد أن الحصري بالغ في طموحه. فما انتهى العمال من بناء البوابة المهيبة حتى نفد المبلغ المخصص لكامل المتحف. توقف العمل. وكان هذا كل ما رأيته منه. عبثاً حاول الحصول على مزيد من المال. وفي أثناء ذلك كانت حركة الإعمار في بغداد قد توسعت واقتربت من موقع المتحف. انبرى المضاربون والمقاولون في التنافس للحصول على الأرض المخصصة لأرضية المتحف ليقيموا عليها منازل ودكاكين وطرقات. كانت بوابة عشتار واقفة في وجوههم من الجنوب. بيد أنهم كانوا قادرين على اجتياح الموقع من الشمال.
أدرك ساطع الحصري أنهم سيستطيعون شق طريقهم وتوغلهم في موقع المتحف. الطريق الوحيد لمنع ذلك كان في إثبات حق المتحف على الأرض. فجاء بنسخة من ذلك التمثال الشهير «أسد بابل». بنى قاعدة كبيرة له ووضع التمثال عليها. أصبح التمثال حارساً لأرضية المتحف من الشمال. لا يستطيع أي مقاول التوغل فيها. ولسنوات طويلة كان هذا كل ما يثبت هوية المتحف السيئ الطالع. هكذا كنت أراه كلما جئت إلى بغداد. بوابة عشتار تستقبلني من الجنوب وأسد بابل يودّعني من الشمال. هذا كل ما كان من هذا المتحف اليتيم.
بيد أن حصول العراق على المزيد من تدفقات النفط مكّن الحكومات المتعاقبة من استئناف تشييد المتحف وإكمال تجهيزه. لكنّ سوء الحظ ظلّ يعاقبه. ففي عام 2003 أي بعد الغزو الأميركي، هجم الغوغاء على المتحف ونهبوا الكثير من محتوياته. مَن يولد يتيماً يعش في اليتم!