غداً... حل يبتعد ومعضلة تبقى

في أوج الاحتفالات بذكرى الهولوكوست، التي شارك فيها عدد غير مسبوق من زعماء العالم، وفي سياق الملاحقات البرلمانية والقضائية التي يتعرض لها الحليفان ترمب ونتنياهو، وبفعل شراكة الحليفين في حلم تجديد الولاية التي لا تبدو مضمونة لأي منهما، تم وبصورة استعراضية الإعلان عن أن الثلاثاء سيكون يوم إطلاع قطبي السياسة الإسرائيلية نتنياهو وجانتس على بنود صفقة القرن.
الإيحاء الأولي لكيفية ومكان وتوقيت الإعلان، يؤشر إلى أن الصفقة ستولد في حضن واضعيها، وأن نقطة انطلاقها ستكون من أرضية تفاهم إسرائيلي إسرائيلي أولا، ثم إسرائيلي أميركي ثانياً، لتحمل بعد ذلك بواسطة طرف ثالث أو حتى بواسطة الإعلام للفلسطينيين، الذين ليس مطلوب منهم إبداء الرأي أو اقتراح تعديلات بل الموافقة، وفي حال الرفض وهو قائم على أي حال فهنالك عقوبات.
وقبل إعلانها وفي المرحلة الطويلة لإعدادها، اتخذت صفقة القرن صفة المشروع غير التفاوضي، أي الحل الذي لا يحق للفلسطينيين المفترض أنهم الطرف الرئيسي فيه إلا أن يوافقوا، وإذا كان هنالك من مواضيع للتفاوض فحول كيفية التنفيذ وأداء الالتزامات.
ما أن أعلن عن موعد عرض الصفقة على قطبي السياسة الإسرائيلية حتى سارعت الطبقة السياسية الفلسطينية إلى تكرار موقفها الرافض للصفقة، والتلويح بأن هنالك إجراءات ربما تكون دراماتيكية ستتخذ كرد عليها. ذلك بعد أن تقدم رسميا لهم ولغيرهم.
الإجراءات التي يجري التهديد بها يصعب التكهن بها ويصعب أكثر ضمان فاعليتها الحاسمة في مواجهة سياسات الطرف المقابل الذي اندمج ليس في مجرد موقف متماثل بل في إجراءات مشتركة «تنفيذ من الطرف الإسرائيلي بمفرده على الأرض، وعقوبات مفتوحة من الطرف الأميركي».
الإعلان المرتقب فرض على الفلسطينيين معركة صعبة ومعقدة فهم مضطرون لخوضها مهما كان الثمن، ولا مجال لتفاديها بأي صيغة من الصيغ، فلأول مرة في تاريخ قضيتهم يواجهون مشروع تصفية وليس مشروع تسوية، ولأول مرة كذلك يواجهون خطراً كهذا وهم منقسمون على أنفسهم، ولأول مرة ينظرون حولهم فيرون أنفسهم في جزيرة محاصرة تماماً، فلقد تغيرت الجغرافيا السياسية والتحالفية من حولهم، ولسوء حظهم أنها تغيرت كلها في غير مصالحهم القريبة والبعيدة.
الفلسطينيون وحدهم هم أول من يتعيَّن عليهم الإجابة عن سؤال ما العمل، وإذا ما راهنت الطبقة السياسية على عوامل خارجية فهذا أشبه بتشتيت الكرة بعيداً عن الملعب، والإجابة عن سؤال ما العمل تتطلب أولا مكاشفة الذات فيما يعرف عادة بالنقد الذاتي، وأول ما يتعين الاعتراف به والإقلاع عنه، هو مبالغة الطبقة السياسية الفلسطينية في ربط المزاج الشعبي بعملية التسوية التي أساسها أوسلو وما انبثق عنها من معطيات وآليات وقوالب، ولقد لوحظ أن الفلسطينيين كانوا يشعرون بحالة انتعاش معنوي وسياسي واقتراب من الهدف كلما وقع تطور إيجابي في المسيرة السياسية، إلا أنهم يتحدرون إلى إحباط يوازي اليأس كلما وقعت انتكاسة في المسيرة.
وعدا بعض الومضات الإيجابية المتفائلة التي ظهرت في بدايات المشروع، فكل ما حدث بعد ذلك كان وما يزال مجرد تراجعات وانتكاسات وإحباطات.
ولا بدَّ ثانياً من تعديل أو تغيير الخطاب الدعائي السطحي الذي تعرضه الطبقة السياسية الفلسطينية على الجمهور، والذي يستند إلى مقولة إنَّ كلَّ ما تفعله وتقوله هذه الطبقة صحيح وفعال، وبالتالي لا خوف على القضية ولا على الحقوق ولا على المكانة فكل شيء على ما يرام بما في ذلك بدائل مشروع السلطة المنهار، من الانفكاك النهائي عن إسرائيل إلى التحول من واقع السلطة إلى واقع الدولة، وجعل منظمة التحرير هي البديل الأهم عن السلطة إذا ما اضطرت الطبقة السياسية إلى الاستغناء عنها، أو قامت إسرائيل بمزيد من إجراءات خنقها واحتلال دورها.
بدائل على هذا المستوى لا تكتسب تأثيرها بمجرد التهديد بها، بل بضمان فاعليتها والضمان هنا ليس بإعلان موقف بل بإقناع الفلسطينيين أولا وأصدقائهم وحلفائهم وحتى خصومهم بجدوى ما يُفعل على هذا الصعيد، ذلك أنَّ مشروع السلطة سواء تقدم أو تعثر يظلُّ في الأساس مشروعاً دولياً يحتاج إلى تنسيق المواقف مع مصادر وجوده واستمراره.
هنالك وجه آخر لصفقة القرن وهو استحالة أن يقدمَ حلاً للقضية الفلسطينية تحت عنوان التسوية أو التصفية ليس لأنَّ جميع دول العالم غير موافقة عليها وليس لأنَّ العربَ تخصيصاَ ليسوا مضطرين للدخول كضاغطين على الفلسطينيين لقبولها، مع أن ذلك كان أحد الرهانات الأميركية الأساسية في مرحلة الإعداد لها، وإنما لأنَّها لم تقدم حلاً لأكثر من عشرة ملايين فلسطيني نصفهم يقيم على أرض الوطن، ويعاني من إنكار الحقوق البديهية، وإهدار الكرامة وفقدان الهوية السياسية، فضلاً عن استباحة الحياة والممتلكات بفعل تواصل الاحتلال وتحوله إلى استعمار دائم، ونصف آخر ينتشر في جميع أرجاء العالم وهو كذلك بلا هوية سياسية، وبلا كيان يضمن كرامتهم الإنسانية، وبلا مكانة مستقرة بين شعوب الإقليم والعالم، فهم مجرد لاجئين أينما وجدوا حتى لو حاز بعضهم جنسيات الدول التي لجأوا إليها، إلا أنَّ وجودَ وطنٍ أمٍ داخل أي إنسان هو الحلم الذي يراود حتى الأجيال التي ولدت بعيداً عن الوطن.
هذا ليس كلاماً عاطفياً أو شاعرياً مع أنَّنِي من الذين يعتبرون العاطفة والشعر سلاحاً مضموناً للوطنية والسياسية، إنه كلام الواقع الذي حمى القضية الفلسطينية رغم ميلان ميزان القوى من كل النواحي لغير مصلحة الفلسطينيين، وهو السبب الوحيد الذي جعل كل مشاريع التسوية غير المتوازنة تخفق وجعل مشاريع التصفية المستترة والصريحة تذهب أدراج الرياح.
إنَّ ثلاثة أرباع قرن من حياة قضية يكفي كبرهان على استحالة تصفيتها، أما بلوغ أهل القضية أهدافهم فهذا ما يزال وسيظل بحاجة إلى فعل الكثير من رعايتهم لقضيتهم، وإلا سنحافظ على قضية بلا حل وهدف يبتعد.