حديث السلام مع علي سالم

الأدب المكتوب بالعربية لا يحقّق للأدباء دخلاً مادياً كافياً. الخيار التلقائي لمعظمهم العمل في الكتابة الصحافية لكي توفر هذا الدخل المطلوب، حيث الصحافة في العصر الورقي اعتمدت بالأساس على الكلمة، والأدباء بضاعتهم الكلمة. إلى هنا والموضوع مفهوم.
لكن الصحافة الأدبية محدودة، لا تكفي لاستيعاب كل هؤلاء الراغبين في تعديل مداخيلهم. كما أنَّ مساحة قرائها، كمساحة قراء الأدب، محدودة. لا توفر جماهيرية للعاملين فيها. أمامهم الصحافة الرياضية. جماهيرية، لكنها لا تعطيهم البريستيج المطلوب. والصحافة الفنية. تحتاج إلى أدوات، كالعلاقات الشخصية والنقد السينمائي والموسيقي والتشكيلي. وصحافة الجريمة. مشاوير إلى الأقسام والسجون لو أردت أن تقدم شيئاً مميزاً. الخيارات لا تترك لهم، ولنا، سوى الخطوة المهلكة.
وحدها الكتابة الصحافية السياسية تسد الخانات. جماهيرية؟ نعم. بريستيج؟ نعم. تحتاج إلى أدوات؟ يمكن الاستعاضة عنها بتكرار عبارات شائعة، في موضوع واحد مكرر، اقتاتت عليه الصحافة السياسية عقوداً. وسوف تحصل على قدر لا بأس به من التصفيق. بهذا المجهود الضئيل للغاية في التفكير السياسي، والمنصبّ على براعتك الكلامية في كتابة الكلام نفسه بصياغات مختلفة، أمامك أيضاً فرصة لتتحول إلى وجه تسويقي لبراند سياسي، كما يتحول نجوم ونجمات الفن إلى وجه إعلاني لمنتج.
هذا أيضاً حقهم. مشكلته الوحيدة بالنسبة إلينا نحن القراء هو احترافهم الكتابة السياسية دون تجديد «حقيبة المعدات». دون إضافة أدوات الفهم السياسي، وآلات قياس النجاح السياسي. ثم إن أديب العربية جزء من التجربة المجتمعية في المنطقة الناطقة بالعربية، كالعالم والباحث والفنان والرياضي ومبتكر التطبيقات الكومبيوترية. الممر المهاري فيها محدود وضيق. التجارب الفردية فيها محدودة وضيقة. وبالتالي المميزون في الكتابة الأدبية، كما غيرها من الحرف، عملة نادرة إنْ قارنتهم بأمثالهم في اللغات الأخرى. والخيال الأدبي الذي قد يفيدنا سياسياً محدود وضيق.
إلا علي سالم.
لم أشبع من قراءة مقالاته، السهلة، الممتنعة على المحاكاة. على السطر قصة عادية، فيها من الفكاهة وسلاسة اللغة ما يكفيها جدارة بالقراءة والاستمتاع. بين السطور فلسفة ونظرة إنسانية ورأي سلس وحاد، بشوش وشجاع، بصير ومتواضع، في البشر، ولا سيما النخبة منهم.
كنت طالباً في الجامعة حين خرجت تجربته الصحافية السياسية الاجتماعية «رحلة إلى إسرائيل». أذكر إلى يومنا الانطباع الذي تركه في ذهني. هذا كلام لم أقرأ مثله من قبل. كتاب يتحدى أفكاري التي كنت أحملها حين فتحت باب غرفته. جعلني أدرك أن هناك مدخلاً آخر لإدارة السياسة. لا أدّعي أن آراءه أعجبتني يومها. الأدق أنها صدمتني. هذا المهم. كانت شجاعة بصورة لا تُحتمل. وسط طغيان الآراء التي نعرفها، وندرسها، ونقرأها كل يوم في الصحف، وتعاد علينا في التلفزيونات، إذا بكاتب شهير، فقد أخاه في حرب 1948 ضد إسرائيل، يخرج علينا ليقول إن هناك طريقة لم نجرّبها في التعامل مع «الصراع»، تختلف عن كل ما تربينا عليه.
لم يتعرض كاتب موهوب لحرب إعلامية كما تعرض علي سالم. ولم يقف كاتب شهير شجاعاً يدافع عن وجهة نظره ويدفع ثمنها كما فعل علي سالم، حتى نجيب محفوظ، اكتفى بالإيحاء بوجهة نظره الشبيهة، دون تصريح. رأيت هذا في السنوات اللاحقة. ورأيت أيضاً الذين يحتمون بالموقف الشائع في بلادنا، يصفون علي سالم بالجبن، ويصفون أنفسهم بالشجعان والأبطال. يصفون علي سالم بأنه «مدفوع» ويصفون أنفسهم بالتجرد. أين النظام السياسي في التسعينات الذي كان يدفع من أجل ترويج السلام مع إسرائيل؟! أخبروني عنه. وأخبروني أين الكاتب الذي حورب لأنه كان يعارض السلام مع إسرائيل. أين البطولة التي نسبوها لأنفسهم؟! كانوا يسيرون خلف الجماهير، وخلف الأصوات الرسمية الطاغية في هذه المسألة. هو وحده كان يسبق الجميع لاستكشاف الطريق.
لم يكتفِ علي سالم بصنعة الكلام وأدواتها لكي يزيد دخله بالكتابة السياسية. لقد شمر وخاض واشتبك وتمعن، كما يجب على الصحافي أن يفعل. ثم إنه شخّص وأخبرنا بما يرى، لا ما نريد سماعه، كما ينبغي على المثقف أن يفعل. ليس المهم هنا صواب رأيه من عدمه. هذا محله المقارعة المنطقية. المهم هنا أنه فعل ما عليه ووسّع أفقنا، ومنحنا مزيداً من الخيارات، وأنّ الآخرين - ممن يحاضروننا عن حرية الرأي - اكتفوا بقمعه ومحاربته واستلذوا برؤية فنان مبدع مثله متهماً في ذمته وضميره، معزولاً يعيش في ضنك، في شقة متألمة مفاصلها من بناية بسيطة بلا مصعد، ولا دعوات، لا بالشفاء ولا إلى علاجه على نفقة المال العام.
الآن، والموضوع صار «السلام في زمن الأطماع التوسعية» لتركيا وإيران، لا بد أن نذكر علي سالم، ليس فقط في موهبته التي لا تحاكَى ككاتب مقال من طراز فريد، بل أيضاً في الجانب الذي حورب من أجله. لنعلم من كان بالفعل حريصاً على مصلحتنا، ومَن كان يستخدم وقت فراغه في إتحافنا بآراء غير متعوب عليها.