مستقبل الجلود والفرو على المحك

صدق من قال: «كل يغني على ليلاه». ففي أسبوع لم يكن فيه أي حديث للصحافة البريطانية والعالمية سوى أحداث سقوط الطائرة الإيرانية وحريق أستراليا وزعزعة الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل للأعراف والتقاليد البريطانية العريقة بإعلانهما قرار الانفصال عن العائلة البريطانية المالكة والاستقلال ماديا، في بادرة غير مسبوقة، أهدت منظمة «بيتا» المناهضة لاستعمال الجلود الطبيعية، دوقة كامبريدج، كايت ميدلتون، حقيبة يد من العلامة الفرنسية: «أشوكا باي». كانت المناسبة عيد ميلادها الـ38 الذي مر هذه السنة مرور الكرام بعد أن خطفت قضية هاري وميغان الاهتمام والأضواء.
كانت الهدية رسالة مباشرة لها بُعد «بيئي» مهم، فـ«أشوكا باي» من العلامات «النباتية»، وسعرها لا يتعدى الـ200 جنيه إسترليني، ما يعادل 240 يورو، وهو سعر معقول مقارنة بما تطرحه باقي بيوت الأزياء الكبيرة. لكن الأهم من كل هذا أن الحقيبة مصنوعة من قشور التفاح.
وهذا ما سلطت عليه الضوء منظمة بيتا في تغريدتها ومدونتها الخاصة بقولها إنها تأمل أن تشجع الهدية الدوقة على «اتخاذ قرارات رحيمة بالحيوانات وبدائل معاصرة فيما يتعلق باختيارها لأزيائها... فهذا سيشجع غيرها على الاقتداء بها».
وكما لم تختر منظمة «بيتا» الحقيبة اعتباطا، فإنها لم تختر دوقة كامبريدج صُدفة. فقد أطلقت هذه الأخيرة وزوجها الأمير ويليام مؤخرا مبادرة مهمة باسم «جائزة إيرثشوت» Earthshot Prize تشجع على إيجاد حلول عاجلة لأزمة البيئة التي نعيشها، بما فيها صناعة الجلود الطبيعية، المتهمة بأنها سبب في هذه الأزمة. وجاء في مدونة «بيتا» أن الحقيبة مصنوعة كاملة من مواد نباتية، وبالتالي لا تضر بالبيئة مثل الجلود التي تتسبب في انبعاثات الكربون الناتجة عن تربية الأبقار والأغنام والحيوانات الأخرى في مزارع خاصة، وفي وجود المدابغ السامة التي تلوث المجاري المائية القريبة وتعرض العمال لكميات زائدة من المواد الكيميائية مثل الزرنيخ.
لكن في خضم كل النقاشات حول الموضة المستدامة وضرورة البحث عن مواد جديدة تُغني عن استعمال جلود الحيوانات، خصوصا المترفة مثل جلود الثعابين والتماسيح، يُلح سؤال مهم عن مدى تأثير هذه الموجة على بيوت أزياء بنت سمعتها وشهرتها على هذه الجلود وكيف ستواجهها؟ «لويس فويتون» و«هيرميس» فقط من هذه البيوت، فضلا عن دار «فندي» التي تعتمد على الفرو إلى حد أن وجودها لصيق به.
ناديج فاني سيولسكي، مصممة «هيرميس» لا تنكر أن الوضع صعب ويحتاج إلى التعامل معه بشفافية.
فالجلد رمز من رموز الدار، وواحد من جيناتها الوراثية التي لا يمكن أن تستغني عنها. ما يشفع لها أن الكل يعرف أنها تتقن صياغته ودباغته وتتفنن فيه بأشكال تجعل المرأة تحلم بقطعة، مهما كانت صغيرة، تحمل توقيعها. وربما هذا هو الحل بالنسبة للدار الفرنسية التي انطلقت بصناعة السروج منذ أكثر من قرن: أن تقدم قطعا فريدة بجودة عالية وتصاميم راقية، تجعلها تبقى معنا للأبد، بل يمكن توريثها لأجيال قادمة، لأنه كلما زاد عمرها زاد جمالها. فالجلود الطبيعية، حسب رأيها، تتنفس وتزيد جمالا مع الوقت، كما أنها على عكس ما يتصور البعض مستدامة من ناحية أنها لا تخضع للموضة السريعة. فقطعة واحدة باهظة الثمن يمكن أن تُغني عن عشر، وهو ما يجنب البيئة الكثير من الأضرار الناجمة عن شراء قطع كثيرة بأسعار زهيدة. في تشكيلتها لربيع وصيف 2020 كانت 70 في المائة من القطع المعروضة من الجلود الطبيعية، الـ30 في المائة الأخرى كانت من صوف الكشمير أو الصوف أو القطن. واللافت أنه كان من الصعب التفريق بينها كون الجلود اكتسبت نعومة تجعلها تبدو من بعيد وكأنها حرير. ورغم أن مصممتها نادجي، تعشق الألوان والتلاعب بها، فإنها كبحت جماح رغبتها، واكتفت بألوان طبيعية مثل الأخضر الكاكي والزيتوني والأحمر الغامق والأسود وما شابه من درجات كلاسيكية تناسب كل مكان وزمان. وخلافا لغيرها من بيوت الأزياء الذين اقتصرت اقتراحاتهم على قطع جلدية محدودة، في الإكسسوارات غالبا، فإن «هيرميس» قدمت طبقا دسما من الجلود من خلال فساتين منسدلة وأخرى قصيرة. هذا عدا عن معاطف بالجُملة وقمصان وبنطلونات. ما ساعد المصممة على طرح هذا الكم من دون أن تفقد التشكيلة مصداقيتها أو تثير حفيظة المناهضين لاستعمال الجلود، أنها لعبت على مفهوم أن قطعة واحدة تكفي وعلى كونها استثمارا طويل المدى.
مثل الجلود الطبيعية، تواجه صناعة الفرو أيضا نفس التحديات، وربما أكثر، لا سيما بعد إعلان الكثير من بيوت الأزياء امتناعها عن استعماله في تشكيلاتها. كل من «شانيل» و«بيربري» و«غوتشي» و«برادا» إضافة إلى «فارفيتش» ومجموعة «يوكس نيت أبورتيه» أعلنت نيتها هذه في عام 2019. لكن صناع الفرو لم يسكتوا أو يقفوا مكتوفي الأيادي. هم أيضا واجهوا التحدي بعدم التنازل عن أسعارهم الباهظة، وبالرفع من مستوى الحرفية اليدوية إلى جانب تطوير أدواتهم وتقنياتهم. تبريرهم أنها كلما كانت بجودة عالية تدوم أطول، وكلما كانت غالية فإن المرأة لن تتخلص منها بسرعة. بالعكس ستقدرها وتحافظ عليها كما لو كانت قطعة مجوهرات. المصممة الدنماركية أستريد أندرسون، التي قدمت تشكيلة رجالية خلال أسبوع لندن الأخير مستعملة الفرو بالتعاون مع شركة «ساغا» قالت إن العقلية الدنماركية كانت دائما تميل إلى الاستدامة «فثقافتنا مبنية على شراء قطع أقل وبجودة عالية. وأنا أؤمن بأن الفرو من أكثر الخامات استدامة. والدتي مثلا لا تزال تستعمل معطفها المصنوع من الفرو الذي اشترته منذ 25 عاما إلى حد الآن. مشكلة الموضة ليست في الفرو بل في الموضة السريعة، من دون أن ننسى تأثيرات صناعة الفرو الاصطناعي على البيئة». وتضيف أندرسون أن الموضوع قد يكون حساسا، لكن تحكمه العاطفة أحيانا، وهذا ما يدفع إلى فتح حوارات صادقة في هذا الشأن. مصممون آخرون يوافقون أندرسون الرأي بأنه لا يجب النظر إلى الأمر من زاوية واحدة. فالفرو، حسبما تؤكد سيلفيا فندي من «أكثر الخامات الطبيعية الموجودة، كما أنه قوي يصمد طويلا من دون أي حاجة حتى لغسله». وتتابع: «عندما ترث أي واحدة منا معطفا من جدتها، فإنها يمكن إعادة تصميمه بسهولة ليناسب مقاسها وأسلوبها». وتُلمح سيلفيا هنا أنه من الصعب على أي واحدة منا التخلص من معطف فرو مهما كان قديما. السبب طبعا خامته هذه.
بدوره أدلى المصمم الأميركي مايكل كورس بدلوه في الموضوع قائلا إن الجهود لا تتوقف على تطوير صناعة الموضة ككل. فصناعة الفرو تقوم منذ فترة على الاستثمار في برامج لزيادة الوعي بتعاملها مع الجلود بطرق رحيمة أكثر مما يتصور البعض. وأوضح: «لقد أصبحت هناك الكثير من التقنيات المدهشة التي تتيح لي كمصمم إبداع أشكال مترفة من دون التنازل عن الجودة أو الأناقة. فزبون اليوم يريد خيارات أكثر ويريد أن يعرف كل شيء عنها من مصادرها إلى مكان إنتاجها».
ورغم أن الكثير من الزبائن ينددون باستعمال الفرو وجلود التماسيح والثعابين ويطالبون بشطبها من قاموس الموضة، فإن نسبة لا يستهان بها لا تزال تؤمن بجمال هذه الخامات، وربما تحلم بها ولا تتأخر على اقتنائها في حال سمحت لها الإمكانيات بذلك.
بيوت الأزياء التي امتنعت عنه تعرف هذا الأمر، لهذا تجتهد في إيجاد بدائل لا تقل جمالا وبهاء، مثل الفرو الصناعي والجلد النباتي. وحسب مؤسسة «يورومونيتور العالمية» فإن إنتاج كل من الفرو الطبيعي والصناعي زادت بنسبة 120 في المائة في عام 2019 لتقدر قيمتها بـ25 مليار دولار. كما بينت دراسة أخرى أن المنتجات النباتية في المخازن الأميركية والبريطانية ارتفعت بنسبة 258 في المائة لا سيما فيما يخص صناعة الأحذية وباقي الإكسسوارات.
بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن الفرو الطبيعي لا يزال يحقق مبيعات تقدر بـ22 مليار يورو، وهو رقم لا يستهان به إذا أخذنا بعين الاعتبار أن صناعة الترف عموما تقدر بـ281 مليار يورو، رغم تراجع مبيعاته في السنوات الأخيرة. فشركة «ساغا» الدنماركية، مثلا تسجل انخفاضا سنويا بنسبة 13 في المائة منذ عام 2018، ولا يعيد صناع الموضة سبب هذا التراجع إلى زيادة الوعي أو إلى مقاطعة الفرو، بل إلى تذبذب السوق وتباطؤ نموها لا سيما في الصين، التي تُعتبر من أهم الأسواق. فهي تستورد نحو 80 في المائة من الفرو الإيطالي.
الحاصل في الوقت الحالي أن الكل متحفز، ما يضع صناع الفرو في حالة استنفار وفي موقف دفاع عن مصائرهم. المصمم إيف سالومون، يقول إن المشكلة التي تعاني منها البيئة اليوم ليست الفرو بل البلاستيك «الذي أعتقد بأنه يجب الحديث عنه أكثر. فالفرو خامة مترفة لكن طبيعية مقارنة بالصناعي وهو ما ينعكس على مظهره». ويضيف سالومون الذي تعاون مع المصمم الأميركي أندريه وولكر على تشكيلة مصنوعة من خامات فائضة لم تستعمل، بأننا «حاربنا من أجل الحصول على حرية القرار والاختيار ولا يمكن أن نتنازل على كل هذا الآن».
في الجهة المقابلة، هناك صناع الفرو الصناعي الذين يحاولون الترويج لمنتجاتهم على أنها «مستدامة» ويمكن أن تُغني عن الفر الطبيعي بخفتها ودفئها وجمال مظهرها، ليبقى القرار في يد المستهلك، الذي لا يزال الكثير منهم يعشقون خامته الطبيعية ويلتمسون لها الأعذار بأنها «مستدامة»، لأنها تبقى إلى الأبد، وتتحول إلى قطع «فينتاج». وهذا ما يوافقهم عليه صناعه بالقول إنه، إلى جانب ذلك، قابل للتحلل ولا تدخل في معالجته مواد كيميائية قاسية، وهو ما يعتبر من أهم ميزات الفرو الطبيعي مقارنة بالفرو الصناعي الذي لا يزال يستعمل غالبا من مواد الاصطناعية مثل البوليستر.
لكن حتى تربية الحيوانات التي يتحدث عنها صناع الجلود، تُثير قضايا بيئية مثل انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن إمدادات الأعلاف والسماد فضلا عن حاجتها إلى إيجاد طريقة لانبعاث كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون في الإنتاج وما شابه من أمور تحتاج إلى المزيد من الدراسات والأبحاث. فالحقيبة التي أهدتها «بيتا» إلى دوقة كامبريدج لا تفتقد إلى الأناقة والجمال، لكن قد لا يستسيغ البعض خامتها، لسبب مهم أنه لم يتعود عليها كخامة مترفة.