الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

مهمة صعبة لإنقاذ اقتصاد متهالك ومواجهة أزمات في الجوار

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية
TT

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

الجزائر: عبد العزيز جرّاد... رئيس حكومة تخصّصه السياسة الدولية

يصف رئيس الوزراء الجزائري الجديد عبد العزيز جرّاد، نفسه بأنه «من أوائل ضحايا نظام بوتفليقة»، الرئيس السابق الذي أطاحت به انتفاضة شعبية في ربيع العام الماضي. ومردّ ذلك إلى إقالته من منصبه بصفته أمينا عاما لوزارة الخارجية عام 2004، عقاباً له على قربه من الخصم اللدود لبوتفليقة آنذاك، رئيس حكومته علي بن فليس، الذي «تجرّأ» وترشّح ضده في انتخابات شهدها العام نفسه.
ولقد اختفى جرّاد من الشأن العام مدة طويلة، وقال لمقربيه في وقت لاحق إن أبناءه وأفراد عائلته تعرضوا لمضايقات بسبب خياراته السياسية، التي لم يعلن عنها قط للإعلام. كما يقول عن بن فليس إنه «تخلى عنه في أحلك الظروف»، بعدما افترق الرجلان على إثر هزيمة كبيرة لبن فليس أمام بوتفليقة في الانتخابات.

عاد الدكتور عبد العزيز جرّاد إلى الواجهة السياسية في الجزائر بعد سنوات طويلة عن طريق الجامعة، فأصبح أستاذا بكلية العلوم السياسية بجامعة الجزائر العاصمة. ثم التحق بحزب «جبهة التحرير الوطني»، الذي يرأسه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
كان ذلك إيذاناً عن «توبة» منه، بحسب خصوم له، بينما رأى مراقبون في ذلك «تطبيعا مع السلطة، سيتبعه دور سياسي ينتظر جرّاد في المستقبل». وهذا ما حصل فعلاً، بعدما أصبح «الرجل الثاني» في السلطة التنفيذية، بعد رئيس الجمهورية. وهنا نشير إلى أن هامش رئيس الوزراء كسلطة في الجزائر، ضاق قياساً إلى الصلاحيات الكبيرة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية. فهو لا يملك صلاحيات التعيين في المناصب العليا ولا تعيين مسؤولين سامين. بل جرى تقليص سلطة رئيس الحكومة بدرجة كبيرة، في تعديل أدخله بوتفليقة على الدستور عام 2008، غير بموجبه تسمية المنصب إلى «وزير أول».

- خبرة اقتصادية محدودة
لا يعرف لرئيس الوزراء الجديد دراية بالشؤون الاقتصادية والمالية، في حين أجرّادن الظروف التي تمر بها الجزائر راهناً بحاجة إلى مسيّر أثبت نجاحاً في تدبير الشأن العام. أما الميدان الذي يشهد الكثير، بأن جرّاد متضلع منه، فهو الإلمام بالقضايا الاستراتيجية والأزمات الدولية، وبالأخصّ، في الدول المجاورة للجزائر كمالي وليبيا. ولذا يعول عليه في تحديد الدور الذي ينبغي على الجزائر أن تلعبه في الملفين، كقوة إقليمية تملك عمقاً في المنطقة.
جرّاد (65 سنة) قال في أول تصريح له بعد تكليفه برئاسة الوزراء، بنهاية العام المنصرم 2019، إن البلاد «مطالبة برفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجها البلاد، ويجب العمل سوياً على مواجهتها والتغلب عليها». وتعهد بالعمل «مع كل كفاءات الوطن من أجل الخروج من هذه المرحلة الصعبة». غير أنه تعرض لانتقادات شديدة بعد ظهور التشكيل الحكومي، الذي سينفذ برنامج الرئيس الجديد عبد المجيد تبَون. وقال منتقدوه إن طاقمه الوزاري «فريق غير متجانس، فهو خليط بين تكنوقراطيين ومحسوبين على تيارات آيديولوجية وسياسية». وتركزت انتقادات أخرى على «صلة الصداقة بينه وبين بعض الوزراء، التي كانت معيارا لتوليهم المسؤولية»، في حين أشار آخرون إلى «العدد المبالغ في الحقائب الوزارية» بالحكومة (39 بين وزير ووزير منتدب وكاتب دولة)، وبأن ذلك كان خطأ يتحمّله تبون، بحكم أن البلد يعاني من شحّ في الموارد المالية في حين أنه يترتّب عن كثرة الوزارات أعباء مالية إضافية.
معالجة الاضطرابات الاجتماعية... أولوية قصوى
بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة، قال جرّاد إن «مخطط عمل الحكومة» الذي يلزمه الدستور بإعداده وعرضه على البرلمان للمصادقة، «يتكفل بأهم انشغالات المواطنين». وعد الجوانب الاجتماعية في استراتيجية الجهاز التنفيذي «أولوية قصوى».
وأكد بخصوص الاحتجاجات والإضرابات في بعض القطاعات، كالتعليم والضرائب والخدمات العامة، أنه «تلقى، خلال اجتماع مجلس الوزراء (الأول بعد انتخاب تبون) توجيهات وتعليمات من السيد رئيس الجمهورية، تعبر عن إرادته في أن تتمحور أولويات الحكومة حول تجسيد مجمل تعهداته الانتخابية، مع الإلحاح على الطابع الاستعجالي للجانب الاجتماعي. بجانب هذا، لا ينبغي أن نغفل الاضطرابات الاجتماعية التي مست قطاعات مختلفة للنشاط الاقتصادي والخدمات العامة».
وقال بخصوص ما ينتظر طاقمه الوزاري من تحديات داخلية، إن «أهداف حكومتي متعددة ترمي إلى تحسين ظروف معيشة المواطنين، والحفاظ على القدرة الشرائية وإنجاز برنامج كبير للسكن. ففي في هذا الظرف الخاص، تعتزم الحكومة، حتى قبل تقديم مخطط العمل أمام المجلس الشعبي الوطني، إطلاق عهد جديد يقوم على أساس الحوار والتشاور مع جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين، وذلك في كنف المشاركة والشراكة».
ودعا جرّاد نقابات تلوح بالإضراب، إلى «المشاركة في المبادلات التي سنشرع فيها عن قريب، وتخصّ جميع قطاعات النشاط، غرض توفير الشروط المثلى من أجل الانطلاق في بناء أسس جزائر جديدة والعمل، يوماً بعد يوم، على تجسيد الالتزامات المتخذة من قبل السيد رئيس الجمهورية، والتي تعكف الحكومة على وضع الأدوات الضرورية لتحقيقها». وتحدث عن «مشروع ضخم يجري تحضيره ويتطلب آجالاً معقولة لتنفيذه، وجواً يطبعه الهدوء والحكمة والتبصّر».
وتابع جرّاد: «لتحقيق هذا المبتغى، فإن مساهمة ومشاركة الشركاء الاجتماعيين، دون أي إقصاء، هو أمر ضروري وحاسم، وبالأخص في قطاع التربية الوطنية (التعليم) الذي يستحق تكفلاً حقيقياً بصعوبات القطاع برمته. فالحكومة تتعهد بالإصغاء لتطلعات الشركاء الاجتماعيين وتحرص على كسب ثقتهم، خاصة وهي تشعر بالاطمئنان لما أثبتوه من نضج وصبر على وضع صعب عاشته بلادنا، وتجدد مرة أخرى استعدادها وتمام التزامها بمباشرة مسعى مشترك يطبعه الهدوء والحزم».

- تحت المجهر
من ناحية أخرى، وضع رجال السياسة، تحت المجهر خيارات جرّاد بشأن أعضاء الطاقم الحكومي. ومن الذين أبدوا اهتماماً بهذا الجانب، عبد الرزاق مقري، رئيس الحزب الإسلامي «حركة مجتمع السلم»، الذي كتب: «هناك شيء جميل في التشكيل الحكومي أعجبني، هو تعيين شخصيات كانت متطرّفة في معارضة النظام، ومعارضة تنظيم الانتخابات. وهناك شيء لافت استغربت له، وهو تعيين شخصيات يرفضها، بل يحاربها، التيار الذي دافع عن الانتخابات وخوّن المقاطعين لها وقسّم الجزائريين، بغير إرادة أغلبهم، على أساس العرق والانتماء للثورة والعروبة والإسلام». وذلك في إشارة إلى ناشطين في الحراك منخرطين في المظاهرات منذ بدايتها قبل قرابة 11 شهرا، وداعمين له من خلال تصريحاتهم ومواقفهم، دخلوا الحكومة، من بينهم الخبير الاقتصادي فرحات آيت علي وزير الصناعة والمناجم، وأستاذ الفلسفة بالجامعة مليكة بن دودة وزيرة الثقافة، والممثل التلفزيوني يوسف سحيري كاتب دولة مكلف بالصناعة السينماتوغرافية.
وبحسب مقري «شيء جيد الانفتاح على المعارضة - ولو كأشخاص - لأن هذا يساعد على التهدئة، إلى أن تظهر النيات الحقيقية، إن كان هناك إرادة فعلا للإصلاح وتجسيد خريطة سياسية على أساس الإرادة الشعبية، خلافا لما كان عليه الحال، أم هي تسكينات موضعية وتآمر على أصول وركائز العملية السياسية الصحيحة».
من جهته، يقول الكاتب الصحافي نجيب بلحيمر عن فريق جرّاد الحكومي إن «الوزارات مناصب سياسية في المقام الأول، والوزير لا يأتي لاستعراض كفاءات نظرية بل لينفذ سياسات شارك في وضعها، أو لتنفيذ سياسات مقتنع بها ولو لم يكن من المشاركين في صياغتها. يطرح مصطلح التكنوقراط كتعبير عن حكومات غير حزبية، لأن الأصل في الحكومات هو أن تتشكل من خلال انتخابات حيث تفرزها الأغلبية البرلمانية وجوبا في الأنظمة البرلمانية، أو تراعى فيها نتائج الانتخابات البرلمانية في نظم رئاسية أو شبه رئاسية بحسب ما يقتضيه الدستور أو العرف السياسي القائم».
ويرى الكاتب أنه «في الحالة الجزائرية طرح مطلب حكومة تكون مهمتها تصريف الأعمال، ضمن شروط الانتقال الديمقراطي وهو ما رفضته السلطة، وفرضت بدلاً عنه خريطة طريق بالقوة انتهت بتنصيب عبد المجيد تبون رئيسا، وبعدها تم الإعلان عن تشكيلة الحكومة والتي شهدت تعيين بعض الشخصيات المعروفة بكفاءتها في ميادين تخصصها، وهذه الكفاءات مطلوب منها إعطاء صورة مشرقة لواجهة نظام الحكم، لكن هناك أسئلة تطرح حول قدرة الكفاءة على إحداث أي تغيير ومن ضمنها كمثال: كيف يمكن الجمع بين وزير المالية الذي عمل في عهد بوتفليقة وبرر خيار طباعة النقود (وهو خيار كان كارثياً على الاقتصاد بحسب خبراء)، مع من كان بالأمس يقدم على أنه خبير مالي وانتقد هذا الخيار؟ الإجابة هنا هي أن الوزير ينفذ خيارات حتى وإن لم يكن مقتنعا بها، وهو بهذا يعمل موظفا ساميا ويقبل بأن ينفذ قرارات تخص قطاعه».

- ليبيا ومالي... أكبر التحديات
ويشرح أستاذ العلوم السياسية قوي بوحنية، الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط»، الوضع الجديد الذي سيتعامل معه جرّاد، خاصة ما تعلَق بالأحداث في بلدان الجوار، فيقول: «هناك مطالب في الداخل كما في الخارج، بتدخل الجيش الجزائري في ليبيا ومالي، لدرء المخاطر التي قد تصل من هذين البلدين. وأتصور أن السيد رئيس الوزراء لن ينساق وراء هذا الضغط، فهو يعلم أن العقيدة العسكرية الأمنية للجيش الجزائري يتحكم فيها الدستور، الذي يقيد الجيش بعدم التدخل خارج الحدود. فهو جيش دفاعي أساساً يتعامل بحذر مع الملفات الحساسة، بعكس كثيرا من العقائد العسكرية لكثير من الجيوش».
وأوضح بوحنية أن «حساسية الجزائر تجاه قضايا التدخل العسكري الخارجي، خصوصاً التدخل الفرنسي ناهيك من تدخل أطراف إقليمية ودولية حالياً، كلها معطيات تأخذها في الحسبان السلطات الجديدة التي جاءت بها انتخابات الرئاسة التي جرت الشهر الماضي. كما تأخذ في الحسبان بوجه خاص، هشاشة الحدود مع ليبيا والتي تتجاوز 900 كلم. وينذر الوضع في هذا البلد بتنامي الخطر الميليشياوي على الحدود وهو ما دفع المؤسسة الرسمية الجزائرية، إلى التعامل مع حفتر كقائد ميليشيا وليس قائد جيش». وأردف: «تتعاطى الجزائر مع الأزمة الليبية، من منطلق الشرعية الدولية، حسب مسؤوليها، الذين يعترفون بفايز السراج وبرلمانه فقط ويطالبون بحل الأزمة وفق مخرج دستوري وقانوني داخلي».
كذلك لاحظ بوحنية أن «قوة الجزائر في هذا الملف، تتمثل في احتفاظها بمسافة واحدة مع الأطراف الإقليمية. فعلاقتها متميزة مع تركيا ودول الخليج ومصر، وهو ما يجعلها تتبنى موقفاً لا يقبل التدخل المباشر حتى تتمكن من فرض دبلوماسية أمنية وإنسانية في آن واحد. ويمكن أن نلاحظ الدور الجزائري في جامعة الدول العربية ودورها الإنساني، في ربط حزام جوي وبري للمساعدات الجزائرية إلى الشقيقة ليبيا... يجب برأيي عدم إنكار الركود الدبلوماسي الذي عاشته الجزائر في العقد الأخير، بسبب شلل مؤسسة الرئاسة دبلوماسيا وسياسيا بسبب مرض الرئيس بوتفليقة واحتكاره للدبلوماسية، وهو ما جعل أطرافاً تتمدد في الفراغ الدبلوماسي الذي تركته الجزائر».

< بطاقة هوية
- ولد في مدينة خنشلة (شمال شرقي الجزائر) عام 1954، وهو متزوج وأب لأربعة أولاد.
- تخرّج شهادة عليا في العلوم السياسية من معهد العلوم السياسية في الجزائر عام 1976، وحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة باريس - نانتير (فرنسا) عام 1981.
- حصل على درجة بروفسور عام 1992، بعد التدريس في عدة مؤسسات جامعية في الجزائر وخارجها.
- شغل منصب مستشار دبلوماسي في عهد الرئيس علي كافي عام 1992، وأمين عام للرئاسة في عهد الرئيس اليامين زروال، وكان مدير المدرسة العليا للإدارة لمدة 5 سنوات بين عامي (1989 - 1992).
- شغل منصب الأمين العام لوزارة الخارجية 2001 و2003.
- كُلّفَ بتشكيل الحكومة الجديدة عام 2019.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.