تونس 2019... عام من التحولات السياسية العميقة

مفاجآت كبيرة أفرزتها نتائج الانتخابات... وتغييرات جذرية طالت تركيبة الأحزاب

فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية شكل مفاجأة (إ.ب.أ)
فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية شكل مفاجأة (إ.ب.أ)
TT

تونس 2019... عام من التحولات السياسية العميقة

فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية شكل مفاجأة (إ.ب.أ)
فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية شكل مفاجأة (إ.ب.أ)

كانت نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تونس بمثابة «صدمة» كبيرة، خلفت تساؤلات عميقة حول مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، على توجهات الناخبين التونسيين، وصناعة الرأي العام المحلي في بلد يستخدم فيه نحو 7.4 مليون مواطن هذه الشبكة، من إجمالي نحو 11 مليون تونسي.
ومنذ بداية السنة الحالية عرف المشهد السياسي تغيرات جذرية وتحولات مهمة، طالت تركيبة الأحزاب السياسية، وعرفت تنقل نواب البرلمان بين الأحزاب في انتظار الاستحقاق الانتخابي، وكانت كل هذه المؤشرات تنبئ بحدوث مفاجآت في نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية، خاصة أن درجة الغضب والاحتقان والرفض للطبقة السياسية الحاكمة بلغ مداه، وغذاه فشل الحكومات في حل الملفات الاجتماعية والاقتصادية العالقة، وهو ما شكل أحد أهم أسباب التوتر الاجتماعي، التي ستؤثر لاحقا على النتائج الانتخابية برمتها.
ونجح قيس سعيد، المرشح الرئاسي الذي لم يكن يحظى بحظوظ كبيرة، في الوصول إلى سدة الحكم، وفاز على منافسه نبيل القروي، رئيس حزب «قلب تونس»، المثير للجدل بفارق كبير، حيث حصل على أكثر من 70 في المائة من أصوات الناخبين. وهو ما شكل مفاجأة غير متوقعة بالنسبة للمتابعين للانتخابات التونسية، ذلك أن قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري، لم تكن خلفه جهة سياسية، أو آلة انتخابية قادرة على منافسة المرشحين التقليديين، الذي ضخوا أموالاً ضخمة لصناعة حملة انتخابية على الطريقة التقليدية، أمثال يوسف الشاهد رئيس الحكومة التونسية، وعبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع في الحكومة ذاتها، ومع ذلك فقد تمكن من الفوز ليفجر بذلك تساؤلات كثيرة حول ما حدث من اتصالات خفية في الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية، وكيف انقلب الرأي العام ضد الطبقة السياسية التي أفرزتها انتخابات 2014، وحكمت خلال الخمس سنوات الماضية.
وبتصدر قيس سعيد نتائج الاقتراع، تكون الانتخابات التي عرفتها تونس خلال النصف الثاني من السنة الحالية، أفرزت مشهدا سياسيا مختلفا عما عرفته البلاد خلال انتخابات 2014، كما حافظت فيها حركة النهضة على موقع متقدم في البرلمان، وتمكنت من النجاح في المراهنة على قيس سعيد، مرشح السباق الرئاسي، وهو ما منحها تأثيرا قويا على المشهد السياسي ككل.
غير أن النظام الانتخابي التونسي لا يمكّن أي حزب سياسي من السيطرة على المشهد السياسي برمته، لأنه يتطلب بالضرورة إجراء تحالفات سياسية حاسمة، لكنها باتت صعبة التشكل بعد أن انفض التحالف السياسي «الصعب» بين حركة النهضة وحزب النداء.
- فشل وتراجع
سجلت الانتخابات البرلمانية، التي جرت في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تراجع أداء عدد من التيارات السياسية، التي كانت فاعلة خلال السنوات الخمس السابقة، وفي مقدمة هذه التراجعات فشل حزب النداء، الذي أسسه الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي، في الحفاظ على زعامة المشهد البرلماني، إذ بلغ عدد مقاعده البرلمانية في انتخابات 2014 نحو 86 مقعدا، واحتل المرتبة الأولى، قبل أن يتراجع العدد إلى ثلاثة نواب فقط، وهو ما مثل صدمة قوية لأنصاره. أما تحالف الجبهة الشعبية اليساري، الذي يتزعمه حمة الهمامي، فقد احتل المرتبة الرابعة بـ15 مقعدا برلمانيا، لكنه وجد نفسه دون مقاعد في البرلمان من خلال نتائج انتخابات 2019، وهو ما طرح تساؤلات حول سبب لفظه من قبل القاعدة الانتخابية، على الرغم من معارضته القوية للحكومتين، اللتين قادهما كل من الحبيب الصيد ويوسف الشاهد.
كما أبرزت نتائج الانتخابات، بشقيها الرئاسي والبرلماني، أن الاعتماد على المشاركة السياسية التقليدية لم يعد يمثل طريقاً وحيداً أو مضمونا لنجاح الأحزاب السياسية وفوزها أمام خصومها، حيث تمخضت الانتخابات عن تنظيم شبابي تختلف توجهاته عما ساد خلال انتخابات 2011 و2014، حيث عمدت فئات من الشبان إلى المرور من المجال الافتراضي إلى المجال الواقعي، من خلال ترجمة النقاشات والخلافات على وسائل الاتصال الاجتماعي إلى قائمات انتخابية ائتلافية، شاركت فعلياً في الانتخابات، وتمكن بعضها من هزم الأحزاب التقليدية، التي كانت مرشحة بقوة للبقاء في السلطة لسنوات مقبلة.
كما برزت بقوة أحزاب سياسية أخرى لم يكن لها وجود فعلي في السابق، مثل حزب «قلب تونس» لمؤسسه نبيل القروي، الذي أصبح ينافس حزب حركة النهضة، ذات القاعدة الانتخابية المهمة. كما اعتبر أكثر من محلل سياسي أن ائتلاف «الكرامة»، الذي يقوده المحامي الشاب سيف الدين مخلوف، ظهر بفضل تأثير «فيسبوك»، الذي أثر بشكل كبير في قرار الناخبين، وجعلهم يختارون تشكيلة سياسية ائتلافية، تمثل مختلف جهات الجمهورية، وذلك على حساب التنظيم التقليدي داخل الأحزاب السياسية.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن بعض المرشحين الذين حققوا نتائج انتخابية غير مسبوقة تهكموا على مرشحي الأحزاب التقليدية لأنهم أنفقوا المليارات من أجل اجتذاب الناخبين، دون أن يحققوا نتائج إيجابية، وتباهوا بأنهم «لم يصرفوا سوى بعض قوارير المياه المعدنية والقليل من القهوة ليجنوا نتائج لم تكن في الحسبان». وكان يوسف الشاهد، رئيس حكومة الوحدة الوطنية التي هندسها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، من بين الشخصيات السياسية التي جهزت نفسها لتحصد أعلى المناصب السياسية، بعد أن انشق عن حزب النداء ليؤسس خلال بداية السنة حزب «حركة تحيا تونس»، وكان قد أسس قبل ذلك كتلة الائتلاف الوطني في البرلمان، مستندا في ذلك على دعم حركة النهضة للبقاء على رأس الحكومة، على الرغم من اتفاق اتحاد الشغل (نقابة العمال)، وحزب النداء على إزاحته من قيادة دفة الحكومة. لكن تلك المساعي فشلت برمتها، وبقي الشاهد على رأس حكومة تصريف الأعمال، إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية، التي أجريت في السادس من أكتوبر الماضي.
وخلال نفس الفترة، التي عقد فيها حزب الشاهد مؤتمره الانتخابي، قامت قيادات حزب النداء، بدورها، بعقد مؤتمر انتخابي كبير. لكن النتائج أدت إلى حدوث انشقاقات جديدة داخل الحزب، الذي فاز في انتخابات 2014، لتبرز تبعا لذلك «مجموعة المنستير»، الداعمة لحافظ قائد السبسي نجل الرئيس الراحل، و«مجموعة الحمامات»، التي تزعمها سفيان طوبال رئيس كيلة كتلة حزب النداء في البرلمان.
وكان من نتائج هذا الخلاف السياسي أن خسرت كل الأطراف ثقة جانب مهم من الناخبين التونسيين، وهو ما تجلى بوضوح في صناديق الاقتراع، التي أفرزت تراجع مكانة حزب النداء، بحيث أصبح ممثلا بثلاثة نواب فقط، بعد أن كان العدد في حدود 86 نائبا. كما خسر الشاهد على الواجهة الرئاسية والبرلمانية، بعد أن فشل في المرور إلى الدور الثاني من السباق الرئاسي، كما احتل حزبه المركز الخامس في ترتيب عدد المقاعد البرلمانية (14 مقعدا برلمانيا)، ولم يتمكن من منافسة حركة النهضة، التي فازت بالمرتبة الأولى بحصولها على 52 مقعدا برلمانيا.
أما فيما يتعلق بالقيادات المتنافسة على زعامة حزب النداء، فقد تم التخلي عن حافظ قائد السبسي، وتم تجريده أيضا من رئاسة المكتب التنفيذي، في حين انضم منافسه سفيان طوبال إلى حزب «قلب تونس»، بزعامة نبيل القروي، المتهم بالتهرب الضريبي وغسل الأموال.
- مشهد سياسي مشتت
في قراءة للمشهد السياسي المقبل، يقول جمال العرفاوي، المحلل السياسي التونسي لـ«الشرق الأوسط» إن حركة النهضة وحزب النداء «تعايشا طوال سنوات خلال الدورة النيابية السابقة، رغم أنهما من الأضداد، وذلك بفضل اتفاق زعيميهما راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي في اجتماع العاصمة الفرنسية باريس، واحتملا بعضهما البعض، على الرغم من الخلافات السياسية والآيديولوجية الكثيرة التي تفرق بينهما، كما تمكنا من إقناع قواعدهما الانتخابية بجدوى التعايش السياسي، وحافظا على مؤسسات الدولة، وأنقذا الثورة التونسية من شبح الفشل الذريع».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.