أديب سعودي غضب من المنجّد وغضب للقصيمي

أخفى صلاح الدين المنجد في دراسة عن القصيمي، عداء القصيمي للأنظمة السياسية العربية، الاشتراكية الثورية، وللأنظمة السياسية الاشتراكية الثورية عموماً. وأخفى عداءه للشيوعية، بل الأسوأ من ذلك جعله عنوة وغصباً وتلفيقاً يغرف من آراء ماركس والشيوعيين!
أخفى المنجد هذا الجانب في توجه القصيمي السياسي والفكري (الفكري أعني بها هنا معاداته للأنظمة العربية السياسية الثورية وللانقلابات العسكرية وللشيوعية وللثورية السياسية، رغم أنه كان ثورياً فكرياً)، لأن في إظهاره تزكية ومدحاً له عند كارهي القصيمي في السعودية الذي كلّفه كبيرهم، ذو المكانة الأسرية الكبيرة، بإعداد تلك الدراسة أو هو أعدها بمبادرة منه استرضاء له وتقرباً منه. فلشدة كراهية هذا الكبير للقصيمي أراد من المنجد أن يطمس ذلك الجانب في توجه القصيمي السياسي والفكري الذي يعلم أن الطبقة السياسية العليا في السعودية تثمنه فيه وتثمنه له في ظل حرب سياسية وآيديولوجية مستعرة ضروس تشنها الأنظمة السياسية العربية، الاشتراكية الثورية، والأحزاب القومية والأحزاب الشيوعية في عقد الستينات على الأنظمة السياسية الملكية التقليدية، وبالدرجة الأولى على بلده: المملكة العربية السعودية. وذلك الجانب هو الذي دفع صلاح الدين المنجد لأن يقرّظ القصيمي وكتابه «العالم ليس عقلاً» بعد صدوره في عام 1963، رغم إسلاميته، ورغم كونه مثقفاً تقليدياً ومحافظاً. لأنه كان مثل القصيمي يعادي الأنظمة السياسية العربية، الاشتراكية الثورية، ويعادي الشيوعية.
كارهو القصيمي كانوا من السلك الديني، وقد كرهوه لسبب ديني سلفي بسبب تأليفه كتاباً دينياً متحرراً وثورياً عام 1946. وهو كتاب «هذي هي الأغلال». بعد أن كانوا محبين له ومعجبين به أشد الإعجاب بسبب كتبه السلفية السجالية الأولى التي خدم به دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية خدمة عظمى، وذلك عندما صد هجمات بعض أعدائها عليها بقوة لم يستطيعوا أن يباروه فيها، فهزموا في المواجهة وانتصر هو وتلك الدعوة التي نافح عنها فيها.
كبيرهم لم يكن من السلك الديني، وإنما يجمعه بهم توفره على العلوم الدينية وشدته وتشدده في تدينه السلفي، ويتميز عليهم بأنه أكثر منهم اطلاعاً على صنوف من الثقافة العربية التقليدية، وأن له عناية بقراءة المجلات الأدبية العربية والصحف العربية، وأنه أمكن منهم في نفوذه الاجتماعي والسياسي.
هذا الكبير هو الذي أغرى صلاح الدين المنجّد بإعداد دراسة قدحية تجريحية عن القصيمي.
الأديب والمؤرخ محمد حسين زيدان الذي هو بعمر القصيمي والذي لا يسيغ القصيمي لتجديفه ضد الدين ولهرطقته ضد العرب في مرحلته الفكرية العدمية، غضب على المنجّد بسبب دراسته عن القصيمي، وبسببها غضب من أجل القصيمي، واتهم المنجّد أنه كاتب مأجور في دراسته عن القصيمي.
روى هذا في مقال هو مجهول عند كل الذين تعرضوا للقصيمي بالدراسة.
هذا المقال متوفر في مطبوعات اثنينية عبد المقصود خوجة الرقمية، ضمن أعمال محمد حسين زيدان الكاملة. وعنوانه هو «عن القصيمي ومع الباقوري». ومن المؤسف أنه لا يوجد فيها بيان عن مكان وتاريخ نشره.
لأهمية هذا المقال، سأعرض - فقط - ما قاله عن القصيمي وما قاله عن المنجد.
يقول محمد حسين زيدان في هذا المقال:
«الكاتب الكبير الأستاذ عبد الله القصيمي كتب كثيراً وطبعت مؤلفاته، لم تلق قبولاً عند الذين عرفوا أنفسهم وعرفوا أمتهم واحترموا تراثهم وفطموا أنفسهم عن اللجاجة، استعرض به الكاتب عضلات فكره. وما كنت معنياً بمجافاته أو مصافاته حتى أني لم أذكره فيما كتبت مع أن كثيراً مما طرح يلزم من لا يصبر على فكر سلبي، لبس أسلوباً مغرياً يخشى منه على من يعجبه التزويق ألا يعبأ بالتلفيق، لأن التزويق زخرف التلفيق، فأغرى حتى كان طري الثقافة مخدراً بما يقرأ لهذا الكاتب. فالأستاذ ظهر له كتاب بعنوان «العرب ظاهرة صوتية»، فوجدتني معه وعليه. أكون معه لو خص طوراً من أطوار العروبة، وما كنت إلا عليه حين وضع العروبة كلها عادية وثمودية وكنعانية (!) وفرعونية (!) وعدنانية تحت هذا التعريف الجائر الذي حصر نفسه في هذه الجفوة لقومه، حتى إنه طرد نفسه من العروبة، بما جاء من تلك الهرطقة على أمته العربية، فإذا به يهرطق أكثر على كل مقدس من عقيدة وكتاب وتاريخ مجيد».
«إن الأستاذ القصيمي لم أكن أعرفه ولم أحظ بأن يعرفني، غير أني رأيته مرتين يوم كان زائراً لمحمد سرور الصبان، يرحمه الله، في بيته في المعادي. رأيته صامتاً يسمع ما يتحدث به إليه الحوماني، الشاعر الشامي الشيعي. كان الحوماني يتحدث والقصيمي قد صك أذنيه، فإذا بي أراه يلبس الكبرياء كأنما قد أحاط نفسه بكهنوت صنعه لنفسه، لا يرى إلا من يريد، ولا يسمع إلا ما أراد. والأستاذ قد غضبت من أجله مرة، حين خرج على الناس، صلاح الدين المنجد بكتيب يرد فيه على القصيمي، نسبته إلى القصيم، فهو في التحقيق المنجّدي ليس قصيمياً، وإن كانت أسرته قد سكنت القصيم أيام محمد علي باشا. فصلاح الدين المنجد يرده إلى صعيد مصر. يستكثر عليه أن يكون قصيمياً. ذلك تعسف ليس له قيمة تاريخية. فهل نُفيت المخزومية القرشية عن أبي جهل؟ كان مشركاً نعم، ولكنه بقي في سمع التاريخ مخزومياً من علية قريش. وأبو لهب نزلت فيه سورة المسد مشركاً. كفر بالإسلام وعقّ ابن أخيه. بقي مشركاً كافراً نعم، ولكنه بقي أبداً ابنا لعبد المطلب، عمّاً، لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرّب ابني أبي لهب اللذين طلقا بنتيه، وقد كان أحدهما زوجاً للسيدة أم كلثوم، عقّا وانشقّا حتى إذا هداهما الله للإسلام أدناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو الخلق العظيم، يجلسان عن يمينه وعن شماله، ليقول بنور الرحمة: «لقد استوهبت ربي ابني عمّي، فوهبهما لي، فكيف يصلح أن يبرأ كاتب ينفي نسبة القصيمي إلى القصيم بينما لم تنف نسبة أبي جهل وأبي لهب إلى مخزوم وهاشم؟ غضبت من ذلك، فما وجدتني إلا وقد تحدثت إلى كثيرين أزيف هذه الضلالة التاريخية المنجّدية. غارة من مأجور،...».
يستفاد من الأسطر الأخيرة من هذا الاقتباس الأخير أن محمد حسين زيدان لم يرد على صلاح الدين المنجّد عند صدور الطبعة الأولى من دراسته للقصيمي عام 1967. ولا عند صدور الطبعة الثانية عام 1972 في مقال منشور، وإنما كان يرد عليها على صعيد شفاهي عند كثيرين من الذين يلتقي بهم ويلتقون به من الأدباء والمثقفين السعوديين.
ويستفاد من مطلع الاقتباس الأول أن مقاله كتبه بمناسبة صدور كتاب القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». وهذا الكتاب صدر عام 1977.
وبمناسبة ذكر هذا الكتاب، يورد دارس القصيمي الأكبر يورغن فازلا ملحوظة مهمة هي أنه «مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان توقف التقدير الإيجابي عموماً الذي كان يحظى به القصيمي في الساحة اللبنانية الأدبية في بيروت. فمن الكتب الثلاثة التي نشرها في أواخر السبعينات وفي الثمانينات لم يلقَ اهتماماً عاماً سوى كتاب واحد هو كتاب (العرب ظاهرة صوتية)». الكتابان اللذان أشار إلى أنهما لم يلقيا اهتماماً عاماً البتة هما كتابه «الكون يحاكم الإله» الصادر عام 1981. وكتابه «يا كل العالم... لماذا أتيت» الصادر في عام 1986.
وقد رصد فازلا ردود أفعال ثلاثة على كتابه الذي ذكر أنه كان قد لقي بعض الاهتمام. رد الفعل الذي له صلة بملحوظته المهمة هو مقال يوسف الخال «أفكار على ورق» المنشور في مجلة «المنار» اللندنية بتاريخ 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977.
يقول فازلا: «في مقال الكاتب اللبناني يوسف الخال، يتخذ الكاتب من كتاب (العرب ظاهرة صوتية) مدخلاً فقط لكي يتحدث بعد ذلك عن مشاكل المثقفين العرب بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية». ويقول الخال: إنه عندما صدر كتاب (العالم ليس عقلاً) كانت صرخة الاحتجاج الواردة فيها لها وقع منطقي، ولكن مع مرور الزمن وازدياد حدة المرارة لدى القصيمي ازدادت قسوة لهجته في هجائه للعرب الذين يغمرهم بموسوعة من الصفات المليئة بالكراهية. وبذلك أصبح عبد الله القصيمي نفسه (ظاهرة كلامية)».
أما ردّا الفعل اللذين لا صلة لهما بملحوظته المهمة هما: رد فعل الأديب اليمني أحمد الشامي الذي يقول فازلا عنه: إنه رد على كتاب القصيمي رداً هجائياً بلغة الشعر عام 1980. وإنه كان يخاطب القصيمي بـ(الصديق القديم) الذي يتهمه بأنه، بعد دفاعه الرائع في السابق عن القضية العربية، قد أصبح (موسِّخ العش). ورد فعل كاتب وصحافي سعودي كان وقتها في عنفوان شبابه، اسمه فهد العرابي الحارثي، إذ نشر قراءة نقدية في جريدة (الرياض) بتاريخ 15- 4 - 1978. اتهم القصيمي فيها بمرض «الدونكيشيتية الفكرية». ولقد عرض فازلا الجزء الرئيسي من مقاله المعنون بـ«هم والتاريخ وحساسية الخطيئة».
وكان فازلا قبلها في هامش أحد الصفحات ذكر ملحوظة طريفة قال فيها: «إن اسم أول كتاب نشره القصيمي في باريس (العرب ظاهرة صوتية) مشهور في مصر ولبنان أكثر من اسم المؤلف. بعض أصحاب المكتبات لا يعرفون القصيمي سوى أنه الذي كتب (العرب ظاهرة صوتية). وفي الكتابات السياسية يستعمل هذا التعبير دون ذكر اسم القصيمي».
في حفل التكريم الذي أقامه رجل الأعمال والأديب عبد المقصود خوجة في اثنينيته للدكتور صلاح الدين المنجّد بتاريخ 25 – 3 - 1985، كان في مقدمة الذين ألقوا كلمات احتفاء به، محمد حسين زيدان. وكان مما قاله في كلمته المرتجلة التي أعقبت كلمة المحتفى به:
«قلت: إن الأسلوب هو الرجل. وقد اختلفت يوماً معه في الرأي لا في العقيدة ولا في المبادئ. فأنا رجعي مثله، والحمد لله أن الرجعية بعدما رأينا من حركات سموها تقدمية وأحداث، لم تعد مسبة، بل أصبحت من مفاخرنا. فالفخر أن نكون ثابتين على مبادئنا وعلى قيمنا وعلى تراثنا. كان الخلاف في الرأي بيني وبينه وهماً مني. كان يريد الناس كما ذكر الآن. وأنا كنت أدافع عن الناس. أتعرفون صلاح الدين المنجّد ماذا كان؟ لقد كان بكتاباته النصير لنا يوم أن قل النصير. ولهذا أعتذر عما فات. وأشكر لنفسي أني أنا الآن أكثر صفاءً معه وأكثر ودّاً له».
الذي يعرف السياق السياسي والفكري الذي ينتمي محمد حسين زيدان إليه يدرك أنه لم يختلف يوماً ما مع المنجّد حول كتاب من كتبه السياسية والفكرية، وقد لمح هو إلى ذلك في سخرية واثقة ومليحة في كلمته الاحتفائية بالرجل وإنما اختلف معه ـــ كما مر بنا ــ حول تجريد القصيمي من قصيميته. والقصيمي كان هو «الناس» الذي قال إنه كان يدافع عنهم، رغم نفوره من كتب القصيمي ومن شخصيته.
وفي هذه الكلمة نرى أنه تراجع عما قال في المنجّد في ذلك المقال، واعتذر منه لاتهامه له، بأنه كان مأجوراً في الدراسة التي كتبها عن القصيمي! وللحديث بقية.