ماكرون وحلف الناتو: خلافات داخل العائلة الواحدة

كان احتفال الحلف الأطلسي بمناسبة بلوغه عامه السبعين، فرصة لفتح الملفات والجراح، ليس مع الخصوم، ومنهم من لم يعد موجوداً، مثل «حلف وارسو»، الذي كان مناوئاً أساسياً لـ«الأطلسي». جاءت الجراح هذه المرة من داخل صفوف الحلف نفسه. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اعتبر الحلف «في حالة موت دماغي»، فيما فتح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، النار على حلفائه الغربيين، متهماً إياهم بدعم الإرهاب في سوريا، بسبب وقوفهم إلى جانب «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يعتبر رئيس تركيا أنها أحد فصائل «حزب العمال الكردستاني». الموقفان الفرنسي والتركي أديا إلى مواجهة كلامية مباشرة بين رئيسي البلدين، انعكست سلباً على الآمال بالاعتماد على حلف شمال الأطلسي للبقاء قوة متماسكة في وجه التهديدات التي تتعرض لها المصالح الغربية، بالأخص من روسيا، إلى حد أن هناك من بات يعتقد أن الفضل في بقاء «الناتو» على قيد الحياة يعود أساساً إلى وجود القوات الروسية على ضفته الشرقية. لم يقتصر الأمر على ذلك. يمكن أن تضاف إلى هموم حلف الأطلسي قضية التمويل المالي، التي يثيرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، منذ دخوله الأبيض، متهماً أعضاء الحلف الآخرين بالتلكؤ في دفع التزاماتهم المالية، تاركين العبء الأكبر على كاهل الولايات المتحدة. مسألة باتت تطرح جدياً في أوروبا موضوع قيام «جيش أوروبي» يغني القارة القديمة عن الاعتماد على الدعم الأميركي، المعرض باستمرار لتغير الرياح السياسية التي تهب من واشنطن. لكن، حتى هذا الخيار بات الآن موضع شك مع انسحاب بريطانيا، إحدى القوى العسكرية الكبرى، من عضوية الاتحاد الأوروبي، واتجاهها أكثر صوب التحالف مع الولايات المتحدة.

كان يراد لقمة الحلف الأطلسي الأخيرة في لندن أن تكون فرصة لإعادة التأكيد على صلابة أهم تحالف عسكري في تاريخ الغرب الحديث، وقابليته للاستمرار بعد 70 عاماً على ولادته، للوقوف سداً منيعاً بوجه زحف الشيوعية في أوروبا. ورغم الجهود الحثيثة التي بذلها أمينه العام، يان ستولتنبرغ، من أجل تدوير الزوايا، والتركيز على القواسم المشتركة، وإبعاد النزاعات الكامنة عن السطح، فإن رئيس الوزراء النرويجي السابق، المعروف بمهارته الدبلوماسية وسعيه الدائم للوصول إلى تسويات، لم يفلح في التغطية على الخلافات العميقة التي بدأت بالانفجار قبل وصول القادة الأطلسيين إلى لندن.
من بين هؤلاء، لعب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دوراً رئيسياً. فقد استغل فرصة مقابلة مطولة مع مجلة «إيكونوميست» البريطانية، في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ليصفي حساباته مع عدة أطراف، أولهم الرئيس الأميركي، وثانيهم نظيره التركي، ثم بقية الأوروبيين المترددين في السير وراء رؤيته للحلف، ولما يتعين أن يكون عليه الاتحاد الأوروبي. وما قاله ماكرون للمجلة البريطانية لم يتردد في تكراره في لندن، داخل وخارج الاجتماعات الرسمية، رغم ردود الفعل السلبية، وبعضها جاء جارحاً. فالرئيس الفرنسي ذهب إلى حد اعتبار أن الحلف الأطلسي «يعاني من موت سريري»، والقارة الأوروبية «واقعة في حالة من الهشاشة البالغة» إزاء التحديات العظيمة التي تواجهها. وفي السياق عينه، ندد ماكرون بـ«تخلي» الولايات المتحدة عن شركائها الأوروبيين، وأنانيتها السياسية، كذلك عبر عن استيائه الشديد من «تصرف» بعض أطراف الحلف بعيداً عن التشاور مع الآخرين، في إشارة إلى العملية العسكرية التركية الأخيرة «نبع السلام»، شمال شرقي سوريا، ضد «حلفاء» للأطلسي، والمقصود بذلك «قوات سوريا الديمقراطية». وانطلاقاً من هذا التوصيف، دعا ماكرون إلى التفكير جدياً من أجل «توضيح الأهداف الاستراتيجية» للحلف، وإلى قيام «دفاع أوروبي»، وهو موضوع سبق أن أثاره العام الماضي، بدعوته لقيام جيش أوروبي «حقيقي». وإذا كان أعضاء في الحلف يتصرفون من غير تشاور مسبق، بحسب الرئيس الفرنسي، فإنه يتساءل عن «مصير» المادة الخامسة من المعاهدة الأطلسية التي تشدد على «التضامن الأطلسي»، في حال تعرض أي من أعضائه لاعتداء خارجي.
حقيقة الأمر أن ماكرون طرح الأسئلة الصعبة التي تراها باريس مشروعة لأنها تهم بالدرجة الأولى الأمن الأوروبي. فعندما «يدفن» الرئيس ترمب معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى «وهي منشورة في أوروبا» من غير التشاور مع الأوروبيين، فإنه «يلعب» بمصير القارة القديمة، وفق توصيف مصادر رفيعة المستوى في الرئاسة الفرنسية. وعندما يقرر الانسحاب من سوريا، ضارباً عرض الحائط برأي شركائه في «التحالف الدولي» لمحاربة الإرهاب الذي تقوده واشنطن، فإنه يتبع سياسة أحادية تستهين بوجهات نظر ومصالح الآخرين، كما أنه «يضحي» بشركاء التحالف في الحرب على الإرهاب، ويشجع تركيا التي اتهمها بأنها على «تواصل» مع شركاء لـ«داعش» على مواصلة سياستها المدمرة في سوريا. ولا يكتفي ماكرون بطرح التساؤلات، ووضع الإصبع على الجرح الأطلسي، بل يعرض مجموعة من «المقترحات».
بداية، يريد ماكرون إطلاق «مشاورات استراتيجية معمقة» حول أهداف الحلف اليوم، التي تشمل مهماته، وتحديد هوية «أعدائه» و«خصومه». واقترح ماكرون تشكيل لجنة من شخصيات مستقلة تكلف بهذه المهمة. إلا أن مطلبه أخذ به جزئياً لأن المهمة أنيطت بأمين عام الحلف الذي أعطي مهلة عامين لتقديم تقرير بذلك. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد قدمت اقتراحاً بهذا المعنى، وأخذ به. وثاني أهداف ماكرون تمثل في طلب «توضيحات» حول ما تقوم به تركيا في سوريا، وخططها في هذا البلد.
مرة أخرى، لم يجد الرئيس الفرنسي ضالته، إذ لم يتردد في الكشف، بعد اجتماع رباعي (فرنسي، بريطاني، ألماني، تركي)، أنه «لم يحصل» على التوضيحات المطلوبة، بل إن هناك خلافاً عميقاً بين الأوروبيين الثلاثة والرئيس التركي حول تحديد التنظيمات الإرهابية. وإذا كان الأوروبيون يعدون حزب العمال الكردي تنظيماً إرهابياً، فإنهم يرفضون قطعياً مسايرة إردوغان في تصنيف «قوات سوريا الديمقراطية» أو «وحدات حماية الشعب» الكردية منظمات إرهابية، مما يعني أن الخلافات ما زالت على حالها. كذلك فإن انتقاد سياسة التسلح التركية، وتحديداً شراء منظومة دفاع جوي «أس 400» لا يمكن دمجها بالأنظمة الغربية، لاقى رفضاً تركياً نهائياً. وفي أي حال، فإن علاقة ماكرون بإردوغان من بين الأسوأ بين قادة الحلف، إذ أن الأخير لم يتردد في التهجم على ماكرون شخصياً، واتهامه بأنه يعاني «شخصياً» من «موت سريري»، وأنه «يفتقر للخبرة والنضوج»، مما يراكم المشكلات بين باريس وأنقره. كذلك فإن ماكرون لم ينجح في تلطيف علاقته بالرئيس ترمب الذي عد حديثه عن الحلف الأطلسي «مهيناً وبالغ السوء بالنسبة للشركاء الـ28» الآخرين. ووعد ترمب بـ«معاقبة» نظيره الفرنسي، بل ذهب إلى اعتبار أن باريس هي «الأحوج» لوجود الحلف من غيرها من الأعضاء الآخرين. ولم يتراجع ترمب عن فرض الرسوم الإضافية على مجموعة من السلع الفرنسية المصدرة إلى بلاده، رداً على فرض باريس ضرائب على الشركات الرقمية الأميركية «غوغل، وفيسبوك، وأمازون». وفي أي حال، فبين ترمب وماكرون خلاف على تمويل الحلف، إذ إن الأول ما زال يردد أنه يتعين على الأوروبيين «وكندا كذلك» تحمل أعبائهم المالية، وأن يخصصوا 2 في المائة من ناتجهم الداخلي الخام للحلف، وهو هدف ما زال بعيد التحقيق.
يبقى أن دعوة ماكرون لدفاع أوروبي و«استقلالية استراتيجية» أوروبية لا تلقى الصدى الإيجابي، خصوصاً في بلدان شرق أوروبا وبحر البلطيق التي خرجت، مع انهيار الاتحاد السوفياتي، من العباءة الروسية، ولا تريد مقايضة المظلة الأميركية الدفاعية والنووية بمظلة أوروبية غير موجودة.
هكذا، يجد الرئيس الفرنسي نفسه كأنه يغرد خارج السرب الأطلسي في كثير من النقاط الخلافية. وثمة من يرى أن دعوته للانفتاح على روسيا، والعودة إلى فتح الحوار معها، مبادرة منفردة لا توافق عليها دول مثل بولندا أو دول البلطيق الثلاث التي تطالب، بدل ذلك، بمزيد من الحضور العسكري الأميركي على أراضيها كي يكون بمثابة «الرادع» لروسيا من أن تكرر معها السيناريو الأوكراني الذي أفضى إلى ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، وأشعل حرباً شرق أوكرانيا مع الانفصاليين المطالبين بإدارة ذاتية والتقارب مع روسيا. ورغم ذلك كله، فإن ماكرون يعد أن ما طرحه من أفكار على بساط البحث لم يذهب هباء.