سانا مارين... أصغر رئيسة وزراء في العالم

تترأس حكومة فنلندية غالبيتها من النساء... ولا تتوقف كثيراً عند السن وكونها امرأة

سانا مارين...  أصغر رئيسة وزراء في العالم
TT

سانا مارين... أصغر رئيسة وزراء في العالم

سانا مارين...  أصغر رئيسة وزراء في العالم

عندما وقفت رئيسة وزراء فنلندا الجديدة سانا مارين وسط زعماء الأحزاب الأربعة الأخرى الذين تتشارك معهم الحكومة الائتلافية لالتقاط صورة جماعية تحتفل بها بتسلمها المنصب، لم تكن تعلم أن الصورة تلك ستحظى بانتباه عالمي، وتطبع على صفحات جرائد في أنحاء العالم من آسيا إلى أميركا.
فنلندا دولة أوروبية شمالية صغيرة، لا يزيد عدد سكانها على الـ5 ملايين ونصف المليون، وليست دولة عظمى تؤثر بسياستها الخارجية، كما أن سياستها الداخلية هادئة لا تجذب كثيراً من الاهتمام العالمي عادة. ولكن هذه الصورة كانت مختلفة، فجميع رؤساء الأحزاب نساء، وكلهن شابات لا تزيد أعمارهن على الـ34، باستثناء إحداهن التي تبلغ من العمر 55 سنة.
ورغم أن العالم طبعها بأنها أصغر رئيسة وزراء في العالم، فإن مارين نفسها تقول إنها لم تُلق انتباهاً يوماً لسنها، ولا لواقع أنها سيدة، بل تفكر بالأسباب التي دفعتها لدخول السياسة. ولكن إذا كانت هي لا تهتم بكونها سيدة شابة وصلت إلى المنصب الأعلى في الدولة، ونجحت بأن تحكم وإلى جانبها سيدات من سنها يرأسن أحزاب الائتلاف، بحكومة معظمها سيدات، فإن هذه الصورة ودلالاتها لم تخفَ حتى على خصومها السياسيين. وكتب رئيس وزراء فنلندا السابق المنتمي لحزب المحافظين ألكسندر ستاب على «تويتر» يقول: «إن حزبي ليس في الحكومة، ولكني أحتفل بأن زعماء الأحزاب الخمسة في الحكومة هن سيدات. هذا يظهر أن فنلندا دولة عصرية متقدمة. غالبية الحكومة التي رأستها أنا كانت أيضاً مؤلفة من النساء. ذات يوم، لن يعود للجنس أهمية في الحكومة. وحتى ذلك الحين، نبقى في الريادة».

قبل أسبوع من اختيار الحزب الاشتراكي الفنلندي سانا مارين (34 سنة) لترأس حكومة فنلندا، كانت هي ما تزال وزيرة النقل والاتصالات في حكومة الزعيم الاشتراكي أنتي رينه. وفي اللحظات الدراماتيكية التي كانت تحيط برينه، بعد أشهر قليلة على تسلمه منصبه، والتي دفعته للاستقالة، كانت مارين في بروكسل تشارك باجتماع أوروبي.
وعلى عجل، استدعيت للعودة إلى بلادها التي باتت في مأزق سياسي. فالرئيس رينه خسر ثقة أحزاب شريكة في حكومته الائتلافية بسبب تعاطيه مع أزمة الإضرابات التي شلت البلاد. فاستقال من منصبه كرئيس للوزراء، على أن يختار الحزب بديلاً له ليرأس الحكومة. وهكذا، وقع الاختيار على مارين البالغة من العمر 34 سنة لخلافته.
وبعد يوم من موافقة البرلمان على تسميتها رئيسة للوزراء، عادت مارين إلى بروكسل لتشارك في اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس كوزيرة هذه المرة، بل كرئيسة للوزراء تتبادل أطراف الأحاديث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شوهد وهو يقدم لها التهاني بحرارة، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغيرهما من الزعماء الأوروبيين.

أولويات الرئيسة

هناك في بروكسل أيضاً، عاد الصحافيون ليسألوها عن سنها، وواقع أن الحكومة الفنلندية أغلبها من النساء، إذ تضم 12 امرأة و7 رجال، فأجابت: «لا أركز على هذا الأمر، فأمامنا كثير من العمل في الوقت الحالي علينا إنجازه». وبالفعل، فأمام رئيسة الوزراء الشابة كثير من العمل.
داخلياً، تواجه مارين أزمة إضرابات عمالية كبيرة أطاحت بسلفها، سيكون عليها التعاطي معها بأسلوب مغاير يمكنها من الحفاظ على ثقة حكومتها، وهي لن تضيع كثيراً من الوقت لكي تتحدث عن الأزمة الأولى التي تواجهها، وتقول إنها لن تقارب المفاوضات مع العمال بأفكار مسبقة، وإنها تقف إلى جانب ذوي الدخل المحدود، مضيفة: «البلاد لا تحتمل استمرار الإضرابات».
والواقع أن العدالة الاجتماعية أحد الأسس التي تسير مارين في حياتها السياسية، فهي تعد من الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي، حتى أنها تحيي أعضاء الحزب عندما تتوجه إليهم بالقول «أيها الرفاق». ومن ثم، فهي من أشد المؤيدين للنظام الاجتماعي في البلاد، وقد تحدثت أكثر من مرة عن كيف قدم لها النظام سنداً عندما كانت بحاجة إلى ذلك في صباها.

النشأة والبدايات

نشأت مارين في عائلة فقيرة، وربّتها والدتها بمفردها بعدما انفصلت عن والدها وهي في سن صغيرة، لإدمانه على الكحول. وكتبت هي نفسها تقول إنها «قصة عائلة مليئة بالحزن، ولكن بفضل النظام الاجتماعي لفنلندا والتشجيع من الأساتذة المتطلبين» تمكنت من تخطي الصعاب، والتخرج من جامعة تامبيري (شمال العاصمة هلسنكي)، لتصبح الأولى في عائلتها التي تتخرج في جامعة. وفي سن الـ15، عملت مارين في فرن، وكانت توزع المجلات لكي تحصل على مصاريف الجيب التي لم تكن والدتها قادرة على إعطائها إياها.
وتروي الرئيسة الشابة أنها بدأت الاهتمام بالسياسة عندما كانت تبلغ من العمر 20 سنة، من خلال الحركات والمنظمات الشبابية. وفي عام 2012، انتخبت عضواً في بلدية تامبيري حيث كانت تعيش، رغم أنها مولودة في العاصمة هلسنكي.
ولم تكن حينذاك قد تجاوزت سن الـ27، وكان هذا المنصب هو الذي شكل مفتاح صعودها السريع بعد ذلك، إذ إنها ترأست مجلس البلدية - في المدينة التي تعد من أكبر مدن البلاد - بين عامي 2013 و2017. ويروي متابعو مسيرتها أنها رغم صغر سنها عرفت بصرامتها، وقدرتها على إدارة جلسات مجلس البلدية بشكل حازم فعّال. وينتشر شريط لها وهي ترأس إحدى الجلسات التي تناقش إنشاء ترام جديد، وتبدو وهي تعبر عن امتعاضها مراراً من محاولات أعضاء المجلس التسويف وإضاعة الوقت بمداخلات طويلة.

نائبة لزعيم الحزب

وفي عام 2014، انتخبت مارين نائبة لزعيم الحزب الاشتراكي، ونجحت عام 2015 بدخول البرلمان للمرة الأولى وهي في سن الثلاثين. وبعد إعادة انتخابها في وقت سابق من العام الحالي 2019، عيّنت وزيرة للزراعة والاتصالات في حكومة رينه الذي وجد فيها باكراً نجمة صاعدة، فاحتضنها وأدخلها حكومته، ولم تمض أشهر حتى انتخبت لتحل مكانه.
ومن ناحية ثانية، لم تعرقل حياة مارين العائلية طموحها السياسي وصعودها السريع، فهي أم لطفلة عمرها أقل من سنتين، ولكنها تقول عن ذلك، كما تقول عن كونها سيدة وشابة، إنها تفكر بنفسها بهذه الطريقة، بل إن واقع كونها تأتي من عائلة فقيرة، ساعد بتقريبها من الناخبين الذين يشعرون بأنها «واحدة منهم». فقبل تسلمها رئاسة الحكومة، حلت مكان رينه لبضعة أيام خلال الحملة الانتخابية عندما تعرض لوعكة صحية، بصفتها نائبة الحزب. ونجحت بأن تكسب تحالف الأحزاب الرئيسية شعبية إضافية، بعدما كان ينحدر في استطلاعات الرأي، مع تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز».
وبالتالي، ورغم تقدم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي كسب نسبة أكبر بكثير في الانتخابات الأخيرة مطلع العام على حساب الحزب الاشتراكي، نجح الاشتراكيون بالتحالف مع 4 أحزاب أخرى في تجاوزه، مما مكّنهم من تشكيل الحكومة. ولكن سياسات حكومتها البيئية، وتعهدها الطموح بتحويل فنلندا إلى دولة خالية من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2035، تبيّن أنها ستكلف الناخبين غالياً.

التحديات الاقتصادية

ولا يساعد مارين كذلك الوضع الاقتصادي في البلاد، فنسبة البطالة مرتفعة بالنسبة لبلد صناعي، وهي ضعفا النسبة في هولندا وألمانيا، كما أن النمو الاقتصادي قد تباطأ. وتعلم مارين ذلك، وهو ما دفعها للتذكير، في أولى الكلمات التي ألقتها بعد انتخابها رئيسة للوزراء، بالعمل لتحقيق هدف حكومتها بخلق 30 ألف وظيفة جديدة. غير أنها قد تعجز عن تحقيق ذلك مقابل الحفاظ في الوقت نفسه على التقديمات الاجتماعية التي كرّرت دعمها لها أكثر من مرة، وتحدثت عن كيف ساعدها نظام الدولة في الأوقات التي كانت بحاجة إليه. فالخدمات الاجتماعية تكلف الخزينة غالياً، والضرائب المرتفعة أصلاً غير كافية لسداد فواتير الصحة والتعليم ومعونات البطالة وغيرها.
ولعل ما يزيد من مشكلات رئيسة الوزراء الجديدة مطالب العمال المتزايدة برفع أجورهم، وهو ما تسبب بموجة الإضرابات التي شلت البلاد، وورثتها مارين عن سلفها. ولكن هؤلاء تحديداً يشكلون «مفتاحاً» انتخابياً مهماً للاشتراكيين، خصوصاً أن كثيراً منهم تحول لدعم الحزب اليميني المتطرف «فينز» الذي يعتمد خطاباً شعبوياً يدغدغ مشاعر العمال. وبحسب البعض، فإن رينه فشل بسبب محاولته اللعب على الأوتار كلها في الوقت نفسه، أي أنه حاول إرضاء العمال بخطاب شعبوي، واليساريين بخطاب اجتماعي، و«الخضر» بخطاب بيئي. لكنه فشل في ذلك، وبدا كأنه يخدع الجميع. وسيكون هذا التحدي أمام مارين، بمحاولة استمالة الطبقات التي تركت الاشتراكيين للأحزاب الأخرى، من دون الظهور بمظهر «المخادع».

الأمن القومي

المشكلات الداخلية للرئيسة الشابة لا تنتهي بالاقتصاد، بل تمتد أيضاً لقضايا تتعلق بالأمن القومي. فواحدة من الأمور التي ينشغل بها الفنلنديون حالياً استعادة مواطنيهم الذين قاتلوا مع «داعش» في العراق وسوريا، ويقبعون حالياً في مخيم الهول لدى الأكراد، ويعتقد أن هناك العشرات من المقاتلين مع عائلاتهم يتنظرون العودة إلى فنلندا. وحتى الآن، تعتمد هلسنكي موقفاً مشابهاً لمواقف الدول الأوروبية الأخرى، برفض استعادتهم بحجة عدم وجود خدمات قنصلية في مناطق الأكراد.
ولم تتمكن مارين من تجاهل هذه القضية في أول ظهور إعلامي لها بعد تسلمها منصبها، إذ سألها صحافيون ما إذا كانت حكومتها قد أخذت قراراً حول كيفية التعامل مع المقاتلين وعائلاتهم، وما إذا كانت عملية إعادتهم قد بدأت، فكان ردها بأنها لا تملك معلومة كهذه لأنها «تسلمت منصبها قبل 6 ساعات فقط». ولكنها أضافت أن الحكومة الماضية التي كانت وزيرة فيها ناقشت الأمر عدة مرات، واستنتجت أن مناقشة الحالات الفردية يعود للمسؤولين الحكوميين، ولكن الحكومة لم تتخذ أي قرار سياسي بإعادتهم إلى فنلندا.
للعلم، وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو الذي تسلم منصبه في يونيو (حزيران) الماضي، وحافظ عليه في الحكومة الجديدة، كان قد أعلن عن تشكيل لجنة خاصة تدرس استعادة 30 طفلاً فنلندياً من مخيم الهول. ولكن قد لا تتمكن هلسنكي قانونياً من استعادة الأطفال من دون أمهاتهن، مما قد يجبرها على استعادة أشخاص يشتبه بأنهم قد قاتلوا إلى جانب «داعش»، وهو ما يتسبب بجدل كبير داخل الحكومة الائتلافية نفسها. فالحزب الوسطي المشارك في الحكومة يخشى استعادة هؤلاء، واستغلال حزب «فينز» اليميني المتطرف لذلك، خصوصاً أنه يحل في الطليعة في استطلاعات الرأي.

استغلال أزمة اللجوء

ورغم أن اللاجئين لا يشكلون أعداداً كبيرة في فنلندا، فإن قصتهم تحولت أيضاً إلى مادة انتخابية للحزب اليميني المتطرف الذي يستغل واقع أن معظم الفنلنديين يؤيدون الحد من أعداد اللاجئين، فيما مارين نفسها تنتقد هذه السياسات التي تطالب بتقليص أعدادهم. وكانت الموجة الأكبر عام 2015، حين وصل إلى فنلندا أكثر من 30 ألف لاجئ، 60 في المائة منهم من العراق. ولكن في العام التالي، ألغى ما يزيد على الـ5 آلاف لاجئ عراقي، معظمهم شبان، طلبات لجوئهم، وقرروا العودة طوعاً إلى العراق، بسبب ما قالوا إنه إحباط من النظام والحياة في فنلندا.
وكانت الحكومة السابقة التي كان يشارك فيها حزب «فينز» المتطرف قد صعبت منح اللجوء، وحددت شمل العائلة بأفراد العائلة المباشرة. ورغم أن سياسة الاشتراكيين مختلفة، فإن مارين قد تجد صعوبة بتليين سياسة الهجرة لصعوبة تمريرها داخل الحكومة الائتلافية، وخوفاً من خسارة المزيد من الأصوات.
سنوات أربع تأمل مارين أن تغير خلالها كثيراً من الأشياء إيجاباً في بلدها، وتقول إن «العمل لن ينتهي حينها، ولكن فنلندا قد تصبح دولة أفضل». وحتى ذلك الحين، وإذا ما نجحت بالاستمرار بعهدها، تبقى مارين ثالث سيدة تحكم فنلندا، وأصغر رئيسات الحكومات في العالم سناً.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.