فيرجيني فيار تلعب على جينات الدار ... بحرفية

في آخر لحظة غيرت دار «شانيل» موعد عرضها الخاص بخط «ميتيه داغ». عرض تعودت تنظيمه في بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل عام في عاصمة من العواصم العالمية. هذا العام قررت إقامته في باريس، ولم يكن يخطر ببالها أنه يمكن أن يتزامن مع إضراب عام ستُعلنه النقابات لإصلاح نظام التقاعد، والذي شمل الكثير من القطاعات، من بينها المواصلات وإغلاق بعض الطرق خوفاً من أعمال الشغب.
رغم ضيق الوقت، استطاعت الدار تقديم عرضها قبل يوم من التاريخ الذي كان مقرراً، حتى تتفادى تعطل وسائل السير وفي الوقت تتجنب الإحراج أمام ضيوفها. والنتيجة كانت مفاجأة سارة؛ لأن كل شيء تم بسلاسة، باستثناء حالة البرد القارس التي لو كان بإمكان الدار التحكم فيها لما تأخرت.
كان هذا أول عرض تتسلطن فيه المصممة فرجيني فيار في «لوغران باليه» من دون أن يخيم شبح كارل لاغرفيلد على الأجواء، على الأقل بالنسبة للحضور؛ لأن المصممة، لم تتنكر لتأثيره عليها، قائلة «أنا ثمرة كل من كارل وغابرييل. فقد تشبعت برموز (شانيل) على مدى سنوات، ولمست عن قرب كيف كان كارل يطوعها».
لم يكن في قولها هذا مبالغة؛ لأنها كانت يده اليمين لـ30 عاماً تقريباً؛ وهو ما يجعل الفطام عنه صعباً في فترة وجيزة. لكن ما يُعطي قولها أهمية أكبر هو أنها كانت دائماً حلقة الوصل بينه وبين الورشات التي تعمل على تنفيذ أزياء وإكسسوارات خط «الميتييه داغ». هي من تتبادل معهم الأفكار وتُوضح لهم رؤية المصمم. عام 2020، تمخضت نقاشاتها مع هذه الورشات عن الكثير من التفاصيل المأخوذة من رموز الدار وجيناتها، مثل زهرة الكاميليا، والريش المتطاير، والسلاسل المجدولة على شكل ضفائر من الجلد، وحزم سنابل القمح المطرزة، وما شابه من رموز حرصت المصممة على صياغتها بأسلوب عصري خاص بها.
أول خطوة اتخذتها كانت اختيارها البقاء في باريس لعرض تشكيلتها بعد أن عودتنا الدار السفر بهذا الخط إلى عواصم عالمية مثل نيويورك وشانغهاي وهامبورغ وعواصم أخرى في السابق. اختارت لها أيضاً عنواناً تاريخياً يرتبط بغابرييل شانيل ارتباطاً وثيقاً هو «31 شارع غامبون» الذي كان مقر عملها وعيشها لسنوات طويلة من حياتها، وتركت فيه إرثاً لا ينضب من الجمال والأفكار. وإذا كان هذا العنوان ولمحات مما يتضمنه من تفاصيل قد ظهرت على الأزياء بشكل خفيف ومتوازن، فإنها في الديكور أخذت حجماً أكبر وأوضح. لتصميمه تعاونت مع المخرجة صوفيا كوبولا ليخرج بهذا الشكل. وحسب ما صرح به برونو بافلوفكسي، الرئيس التنفيذي لـ«ويمنز وير دايلي»، فإن «العرض يتعلق بالميتييه داغ، والعنوان هو 31 شارع غامبون، وهذا يعني شيئاً واحداً، وهو أننا في قلب دار (شانيل)».
جدير بالذكر، أن التعاون مع المخرجة صوفيا كوبولا لم يكن مفاجئاً؛ كونها ليست جديدة على عالم الموضة، ولا على دار «شانيل». بل العكس دخلت الدار منذ أن كان عمرها 15 سنة، كمتدربة، ومنذ ذلك الحين توطدت الصداقة بينهما بشكل رسمي، إلى حد أنها أخرجت مؤخراً شريط فيديو عن معرض «مادموازيل بريفيه» في طوكيو عربوناً لهذه الصداقة. تعاونها مع فيرجيني فيار لرسم معالم الديكور كان طبيعياً؛ كونها تعرف الكثير من زوايا الدار. الجميل في هذا الديكور أنه لم يحاول سرقة الأضواء من الأزياء على الإطلاق. كان هناك توازن بين الاثنين نسجته المصممة بالتويد وأزهار الكاميليا وألوان الذهب والماس؛ ما جعل الأنظار تتركز على الأزياء بالقدر نفسه. فالديكور، رغم فخامته، كان مجرد وسيلة لإدخال الضيوف عالم «شانيل» بدعوتهم إلى شقة غابرييل. وبما أن الشقة لا تستطيع احتواء عددهم الكبير، ارتأت المصممة أن تُحضرها لهم من خلال رموز بداخلها جمعتها غابرييل على مدى عقود، من الثريات الضخمة والرسمات المأخوذة من الـ«بارافانات» التي لا تزال تزين شقتها، إلى المرايا المستنسخة عن السلالم الشهيرة بشارع غامبون، حيث كانت المصممة تجلس مختبئة وراءها لتتابع العارضات وهن يتهادين بإبداعاتها، وتراقب ردود أفعال الزبونات وهن يتابعنهن.
ساعة من الزمن مرت قبل بدء العرض، وهو ما كان متعمداً لإعطاء الحضور فرصة التقاط صور وسط هذا الديكور المثير لنشرها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، أو فقط للاحتفاظ بها كذكرى. ثم أطلقت إشارة بدء العرض بخفض الثريات الضخمة من السقف إلى مستوى يعلو الخشبة بقليل. بعدها مباشرة بدأت العارضات في النزول من السلالم، أولاً في مجموعة من المعاطف السميكة باللون الأسود مزينة بأحزمة مطرزة معقود بعضها من الخلف. تلتها تايورات بتنورات مستقيمة تحمل نكهة باريسية تشمها من بعيد، وكان واضحاً أنها متعمدة. فالمصممة التي عملت مع الراحل كارل لاغرفيلد لنحو 30 عاماً، لا تزال تذكر أول عرض من خط «الميتييه داغ»، في عام 2002، وكيف كان أيضاً بالنكهة نفسها. لكن لا بد من القول إن الكثير من رموز الدار جاءت أكثر وضوحاً في تشكيلتها لعام 2020، سواء تعلق الأمر بزهرة الكاميليا التي طُرزت إما على تنورة من الصوف، أو ظهرت بشكل ثلاثي الأبعاد على جاكيت أو قميص أبيض أو تعلق بحُزم سنابل القمح التي كانت الآنسة غابرييل تتفاءل بها ورُسمت هي الأخرى بلون الذهب على جاكيت من التول بالأسود، فضلا عن «31 شارع غامبون» التي كتبتها على صدر كنزات من الصوف. موتيفات مأخوذة من البارافانات التي تزين شقتها ظهرت هي الأخرى في أجزاء صغيرة مثل حواشي الأكمام أو الجيوب. جُرعاتها كانت خفيفة مقارنة بما كان يقدمه كارل لاغرفيلد لهذا الخط، فضلاً عن أنه سبق له أن طلب من ورشة «لوساج» تطريز الكثير من موتيفات هذه البارافانات في معاطف قدمها في تشكيلة الـ«هوت كوتور» لخريف 1996 بسخاء أكبر. تبرير المصممة أنها كانت تريد أن تأتي كل قطعة من المجموعة وكأنها «صيد ثمين» يبقى مع صاحبتها طويلاً، وهو ما حققته بمخاطبتها كل الأذواق والأجيال.
إذا كان لا بد من الحكم على التشكيلة، فلا بد من القول إنها لم تكن جريئة ولا ثورية، بقدر ما كانت أنيقة تعبق بنفس أنثوي جديد رغم تقيدها الشديد برموز الدار والنص الذي كتبته غابرييل شانيل وبعدها لاغرفيلد. أخذت من كل منهما عناصر أيقونة مثل زهرة الكاميليا، وصاغتها بأسلوب باريسي عصري تعرف أنه سيلمس وتراً حساساً بداخل المرأة، أياً كان عمرها أو بيئتها. فهذه تشكيلة لكل الأذواق، ولامرأة لا تريد أي تعقيدات في حياتها بقدر ما تريد أزياء سهلة تُبرز أناقتها في كل مناسباتها ولا تتطلب منها الكثير لتنسيقها.
وهذا ما يُحسب للمصممة الفرنسية. فهي لا تتسرع التغيير، بل العكس، تعمل بهدوء على وضع بصمتها بشكل تدريجي، ومن خلال تغييرات طفيفة تأخذ سياسة وثقافة الدار بعين الاعتبار. ورغم هذا، نجحت في إضافة لمستها كأنثى تفهم بنات جنسها.
فرغم عملها مع لاغرفيلد لنحو 30 عاماً، تؤكد تصاميمها لحد الآن، أنها أقرب إلى أسلوب غابرييل شانيل. بيد أن الأهم بالنسبة للدار، أنها تتمتع باللمسة الميداسية نفسها التي كان يتمتع بها سلفها، وليس أدل على هذا من أن أول تشكيلة من خط الكروز صممتها حققت نجاحاً كبيراً بعد طرحها في الأسواق مباشرة. كما أن حقيبتها من الخط نفسه، والتي تتميز بـ«لوغو» جديد، نالت إقبالاً كبيراً إلى حد أنها نفذت من محال الدار. هذه اللمسة الميداسية ستمتد إلى الحقائب التي اقترحتها في عرضها هذا. فهي لا بد أن تثير الرغبة نفسها فيها، ولا سيما تلك التي أخذت شكل قفص استلهمته من قفص في شقة غابرييل، وإن كان أيضاً يستحضر حملة ترويجية قامت بها المغنية الفرنسية فانيسا بارادي لعطر «كوكو» الشهير عام 1992 وظهرت فيها في قفص مماثل. فهذه التصاميم المبتكرة إلى حد الغرابة هي التي تثير فتيات الجيل الجديد، اللواتي لم تنس التوجه إليهن من خلال تصاميم قصيرة، تكشف جزءاً من الخصر حيناً والسيقان حيناً آخر، ليبقى القاسم المشترك بينها، تطريزاتها المبتكرة. لهؤلاء أيضاً اقترحت أفكاراً لتطويع الكلاسيكي بالعصري، مثل تنسيق فساتين مبطنة طويلة على شكل معاطف باللون الذهبي مع بنطلونات من الدانتيل أو مطرزة من الجوانب، في مزيج لذيذ بين الكلاسيكي والشبابي، وطبعاً «اللوغو» الذي يعشقنه.
نهاية العرض اختلفت عن البداية. غاب اللون الأسود تقريباً فيما عدا بعض الفساتين المصنوعة من الدانتيل، وغلبت ألوان الذهب والمرجان التي ظهرت في فساتين سهرة كما في تايورات وكنزات مفتوحة من الصوف الناعم وفساتين منسدلة من الموسلين أو الدانتيل مزين بعضها بالريش أو برشات من الذهب في الحواشي والأحزمة.

- كان الراحل كارل لاغرفيلد هو من ابتدع فكرة «ميتييه داغ» في عام 2002. لم تكن فكرته نابعة من رغبته في إبراز مهارات الورشات التي تتعامل معها الدار ومدى حرفيتها فحسب، بل كانت لإنقاذها من الإفلاس والغياب أيضاً. فقد انتبه إلى أن الكثير من الشركات العائلية الصغيرة تمر بظروف اقتصادية صعبة يمكن أن تودي بها إلى الإفلاس. فباريس التي كانت تحتضن في بداية القرن الماضي المئات من الورش المتخصصة في كل مجالات الموضة، بدأ عددها يتقلص بعد الأربعينات والخمسينات. دار «ليساج» مثلاً اضطرت إلى تخفيض عدد العاملين بها من 120 إلى نحو خمسين فقط في الثمانينات، في حين أعلن بعضها إفلاسه وأغلق أبوابه. كان الأمر يستدعي تدخلاً عاجلاً، وهو ما قام به كارل لاغرفيلد غير مكتفٍ بإنقاذهم فحسب، بل حرص على أن يجعلهم نجوماً. بدأ يتعمد تسليط الضوء على حرفيتهم سواء في عروض الأزياء الموسمية، وتحديداً الـ«هوت كوتور» التي تعتمد على مفهوم صُنع باليد، أو في خط الـ«ميتييه داغ» الذي كما يدل اسمه هو عن المهارات الفنية التي تتمتع بها كل ورشة، من «باري» الواقعة في منطقة «هاويك» بين تلال وهضاب اسكوتلندا، وتتخصص في غزل الصوف والكشمير إلى «ماسارو» المتخصصة في الأحذية و«ليماري» في الزهور والريش و«ميزون ميشيل» في تصميم وصناعة القبعات و«ديسرو» في صناعة الأزرار و«غوسن» لصناعة الذهب والفضة و«لوساج» و«مونتيكس» للتطريز و«غييه» لصنع الورد و«غوسنس» لصناعة القفازات».
على الأرض، كانت فيرجيني فيار هي حلقة الوصل بينه وبين كل الورشات المساهمة في هذه العروض؛ لهذا كان من البديهي أن تُصبح لديها دراية عالية بكل ما يجري فيها وبأدق تفاصيلها، وهو ما أكدته في عرضها الأخير.