مئات الآلاف من الفرنسيين يحتجون على إصلاح نظام التقاعد

أكثر من نصف مليون فرنسي نزلوا إلى الشوارع، أمس، في يوم «خميس أسود» لكنه لن يكون الوحيد في إطار الحركة الاحتجاجية على مشاريع الحكومة لإصلاح نظام التقاعد. ومصدر القلق الأول للمواطنين، الذي شكّل أمس الصعوبة الكبرى، هو شلل أنظمة المواصلات؛ أكان ذلك القطارات السريعة العابرة للبلدان أو القطارات المحلية، فضلاً عن «مترو الأنفاق» في باريس، وقطارات الضواحي، إضافة إلى حافلات النقل الجماعي، وتلك المخصصة للتلاميذ... ولازم ذلك إضرابات واسعة شملت بالطبع قطاع النقل بأشكاله المختلفة (السكك الحديدية، والبرية، والجوية» والتعليم (الأساتذة والتلامذة والجامعات) والصحة والقضاء (بما في ذلك القضاة والمحامون) والكهرباء والطاقة والشرطة والثقافة والإطفاء والمئات من «السترات الصفراء».
وأمس، حُرِم السياح الموجودون بكثافة في فرنسا من الصعود إلى برج إيفل وقوس النصر والمتاحف الرئيسية. وتداخلت القطاعات العامة بالخاصة في حركة تذكّر بما عرفته فرنسا في عام 1995، بحيث اعتبر المراقبون أن التعبئة الشعبية التي دعت إليها النقابات على اختلاف توجهاتها «باستثناء نقابة الفيدرالية الفرنسية للعمل القريبة من الحكم»، والحزبان «الشيوعي» و«الاشتراكي»، إضافة إلى حركة «فرنسا المتمردة» الواقعة في أقصى اليسار هي الأكبر في السنوات الأخيرة.

رغم التعبئة الشعبية المناهضة لمشاريع الحكومة، ما زالت الأخيرة متمسكة بالسير فيما تعتبره المشروع الإصلاحي الأكبر في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون. وينتظر، بعد أشهر من المشاورات والمناقشات، أن يقدم رئيس الحكومة إدوار فيليب صيغة أولية للمشروع الإصلاحي على أن ينقل إلى الجمعية الوطنية أواسط الشهر المقبل. لكن ذلك يتوقف بالدرجة الأولى على ما سيحصل في إطار الحركة الاحتجاجية التي تنتهي مع انتهاء «الخميس الأسود»، بل إنها مرشحة لتستمر لأيام، وربما حتى أعياد نهاية السنة، خصوصاً أنها تحظى بدعم شعبي بينته استطلاعات الرأي الكثيرة التي أُجريت في الأيام الأخيرة. وما تسعى السلطات لتفاديه أن تسير هذه الحركة على غرار ما عرفته فرنسا في إطار حراك «السترات الصفراء»، وخصوصاً التجاوزات الأمنية. ولذا، عمدت مديرية الشرطة في باريس ووزارة الداخلية إلى نشر ما لا يقل عن ستة آلاف رجل أمن في العاصمة وحدها لتلافي أعمال الشغب التي حذر منها الوزير كريستوف كاستانير الذي توقع، أول من أمس، اندساس عدة مئات من مجموعة «بلاك بلوكس» اليسارية المتطرفة، في أوساط المتظاهرين من أجل التعرض لرجال الأمن واستهداف المتاجر والمحلات. ومثلما كان متوقعاً، كان قطاع النقل الأكثر تأثراً حيث ألغي 90 في المائة من القطارات السريعة، وأغلقت المحطات بشكل شبه كامل على جميع الأراضي الفرنسية. وتأثرت حركة النقل الجوي بنسبة 30 في المائة، وعانى الباريسيون من إغلاق 11 خط مترو «من أصل 14 خطاً» فيما يقيت أبواب مئات المدارس مقفلة.
وشهدت باريس المظاهرة الأكبر التي انطلقت من «محطة الشرق» للقطارات الواقعة شرق العاصمة باتجاه ساحة «لا ناسيون» مروراً بساحة «الجمهورية»، بينما مُنِع المتظاهرون من الاقتراب من الأماكن الحساسة؛ أكان ذلك رئاسة الجمهورية أو المقر الحكومي ووزارة الداخلية ومبنى مجلس النواب وجادة الشانزليزيه وساحة الكونكورد وكاتدرائية نوتردام.
وعمدت القوى الأمنية إلى القيام بعمليات تفتيش واسعة سبقت المسيرات في باريس والمدن الكبرى، وأوقفت مئات الأشخاص. وأعلنت النقابة الرئيسية الداعية للإضراب والتظاهر «الكونفدرالية العامة للشغل» القريبة من الحزب الشيوعي، أن ما لا يقل عن 250 ألف متظاهر شاركوا في المسيرة الباريسية وحدها. ورغم التدابير الصارمة التي نفذتها القوى الأمنية، وحضور الجهاز الخاص بالنقابات المكلف المحافظة على سلمية المظاهرة، فإن أعمال شغب حصلت، بعد ظهر أمس. وهكذا، فقد حصلت اشتباكات بين القوى الأمنية والعشرات من المشاغبين قريباً من ساحة «لا ريبوبليك». وعمد هؤلاء إلى مهاجمة عدد من واجهات المحلات التي هشموا بعضها، ورموا على رجال الشرطة كل ما وقع بأيديهم، كما عمدوا إلى إحراق عدد من الآليات. وجاء الرد بإطلاق القنابل المسيلة للدموع وبتوقيف مجموعة من الأشخاص الذين وصلت أعدادهم إلى 71 شخصاً «حتى بعد الظهر».
ولم يصدر شيء أمس عن رئيس الجمهورية بخصوص الإضراب. لكن النقابيين والمحتجين لم ينسوا تأكيده نهاية الشهر الماضي بأنه «لن يتخلى» عن مشروعه الإصلاحي الذي يريده الأكثر عدالة والأسهل تنفيذاً، بالنظر لتعقيدات النظام الحالي الذي يتضمن ما لا يقل عن أربعين تفريعاً مختلفاً. بيد أن معارضي المشروع الحكومي ينددون بنتائجه المنتظرة في حال إقراره والعمل بموجبه، وهم يرون أنه سيخفض من مستويات المعاشات التقاعدية، وأنه ليس «منصفاً». والواضح أن هناك نوعاً من «حوار الطرشان» بين السلطات والمحتجين، وأن ما بدأ بالأمس هو عملية ليّ ذراع، ولا يعرف اليوم من سيصرخ أولاً.