كسر الصمت

ارتأى الفرنسيون واليابانيون معاً، أن أفضل من يستطيع إعادة وصل ما انقطع بين تحالف شركة «رينو» من جهة وشركتي «نيسان» و«ميتسوبيتشي» من جهة ثانية، هو هادي زبليط، المهندس اللبناني الآتي من مدينة طرابلس الشمالية، وتلميذ كبريات المعاهد الفرنسية. والرجل الذي يكمل أربعيناته ليس نجماً ولا شهيراً، لكنه متفوق في ميدانه. وأثبت جدارة عالية في مسيرته المهنية مع «رينو»، وحاز إعجاب اليابانيين خلال عمله مديراً لـ«التطوير التجاري» بين عملاقي السيارات الموجودين في قارتين مختلفتين، وخلال ظروف كادت تطيح بالتحالف كله. خلف زبليط مواطنه كارلوس غصن الآتي من شمال لبنان هو الآخر، وانحنت له هامات اليابانيين احتراماً وإجلالاً لدوره في إحياء «نيسان»، فخر الصناعة اليابانية بعد أن هوت، وكان إنقاذها على يديه أشبه بمعجزة. وقد فعلها غصن، لكنه انتهى بفضيحة مالية، وسجن، ودعاوى قضائية، يفترض أن تكون درساً لكل صاحب منصب، كي يتعلم كيف يطلب من المال أقل، حتى وإن افترض أنه يستحق أكثر.
هذا ليس موضوعنا، وإنما الكفاءة اللبنانية التي تحلق أينما حلّت، ولا يلتفت إليها كقيمة إنقاذية في بلادها، حتى صار لبنان مستحقاً دخول موسوعة «غينيس» كأكبر مصدّر للأدمغة (نسبة إلى عدد سكانه)، فيما لا يجد زعماؤه بسبب ذهنيتهم الديناصورية، وأنانيتهم، وأولوياتهم السلطوية، أسماء مشهوداً لها لتسلم مسؤوليات، لا في كعب السلم ولا على رأسه، مع أن السفينة آخذة في الغرق، وهي لن ترحمهم كما لن تنجو بغيرهم.
العام الماضي، غادر 34 ألف لبناني مطار بيروت ولم يعودوا. وهذا الرقم هو ثلاثة أضعاف عدد المغادرين السنة التي سبقتها، ومع نهاية هذه السنة سنكتشف، على ما يتسرب، أن الذين قرروا المغادرة من غير رجعة هم من الكثرة، بحيث تسأل نفسك إن كان سيبقى من شبان في لبنان، أم سيتحول إلى مأوى لكبار السن، خاصة إن لم تجد صرخات الشباب في الشارع وهتافاتهم من يستمع إليها، ويلبي ولو جزءاً من طموحاتهم.
المغادرون ليسوا في غالبيتهم عمالاً وبلا كفاءات. فأخبار نجاحاتهم تأتي لتؤكد صوابية خياراتهم. إذ ليس لهذه البلاد مسؤول يحميها، ويفهم قدرات شبابها. من المفارقات أن الأسبوعين الأخيرين، وتزامناً مع مظاهرات المنتفضين، توالت أخبار كثيرة يفترض أن تكون مفرحة. فقد عينت الصحافية اللبنانية رولا خلف رئيسة لتحرير صحيفة «الفايننشيال تايمز» البريطانية، كأول امرأة في هذا المنصب في تاريخ هذه الصحيفة التجارية العريقة التي يزيد عمرها على مائة عام، ويقرأها يومياً، ورقياً فقط، أكثر من مليون شخص في العالم.
وقبل أن ينهي اللبنانيون احتفالهم بصحافيتهم، كانت الشاشات والصحف الأميركية تحتفي بإنجاز الطبيب الشاب محمد بيضون الذي تمكن من إنقاذ مريض من شلل كان يظن أن الجراحة الطبية عاجزة عن انتشاله منه. وهو ليس الطبيب الوحيد ولا الفريد الذي يتحول إلى علامة فارقة في مهجره. في الوقت نفسه كان فريق الجامعات اللبنانية المشارك في مسابقة هواوي للاتصال والمعلومات في الصين يفوز بالمرتبة الأولى، وينال جائزته التي يحصدها للمرة الثالثة متفوقاً على باقي الفرق.
هذه الأخبار التي تصل إلى اللبنانيين بقدر ما ترفع من معنوياتهم، تزيدهم إحساساً بالإجحاف والظلم الممارس عليهم حتى كتب أحدهم لو كان هادي زبليط في طرابلس الأسبوع الماضي، لما تنعم بأي مما يعيشه، ولكنا رأيناه واقفاً أمام إحدى محطات البنزين منتظراً دوره، كي يتمكن من تعبئة سيارته بالوقود.
جلّ ما طلبه الشبان المنتفضون، هو تمكينهم من البقاء في بلدهم وفي دفء عائلاتهم، وأن ينظر إلى معارفهم التي تحصلوا عليها عند توظيفهم، لا إلى طوائفهم ومدى قرابتهم أو تزلمهم للزعيم. ومع ذلك لا يزال هذا المطلب عسير التحقق. جلّ ما طلبوه هو أن يمنح بسطاء الناس الأمل، والطبقة الوسطى مكانها بعد أن نحرت بالجشع وشطبت بفعل الضرائب وحصد الغنائم. سوريالي أن يكون أبناء البلد الواحد في خارجه مبدعين وفي داخله مشاريع انتحارية. محال أن لا تحمل الإدارة السياسية مسؤولية الفشل، حين تكون النتائج في الخارج مذهلة وعدد المقدمين على الانتحار في الداخل إلى تصاعد، وجلهم في متوسط أعمارهم، وما يرغبون فيه ليس سوى الكفاف.
الوضع ضاغط بالتأكيد، النفوس مشحونة، وصمم الطبقة السياسية يشعر الناس بانغلاق الأفق، وموت الأمل. ما احتاج إليه، ابن البقاع ناجي الفليطي قبل أن ينهي حياته شنقاً، لم يكن يتجاوز الألف دولار لسداد ديونه، وضمانا صحيا يعالج زوجته المريضة بالسرطان. وما كان يمكن أن ينقذ حياة الشاب طوني أبو حيدر الذي أطلق على رأسه رصاصة الرحمة، هو أن يرى عائلته تعيش من دون خوف وتهديد من غائلة الجوع والحاجة. اليأس هو الذي يقتل وليس الفقر. إحساس الناس بأن بؤسهم ليس له نهاية، وأن الإصغاء إلى وجعهم محال في وطن صار فيه من يكدّ ويعمل بلا راتب وفي أحسن الأحوال بنصفه، ومن لا يعمل ممنوع من الحلم. لعل بارقة الأمل الوحيدة فيما يشهده لبنان من مخاض عسير، هو أن الغد لا يمكن أن يكون استمراراً للماضي ولا شبيهاً به، وأن التغيير بات حتمياً، والمحاسبة بدأت، وحسّ المراقبة يكبر. عيون الناس مفتوحة على كل زلة. لم يعد الخطأ مسموحاً، ولا الفساد مقبولاً، من الموظف الصغير وصولاً إلى المسؤول الكبير. هناك من يسائل ولو في الشارع ويرفض الفساد ولو كان شفهياً. طويت صفحة الصمت، وهذا وحده قفزة لها ما بعدها.