افتتح قسم «آفاق السينما العربية» أعماله بالفيلم التونسي «بيك نعيش»، وذلك في اليوم الثاني من أعمال مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الذي انطلق في العشرين ويستمر حتى الثلاثين من هذا الشهر.
المسابقة التي تتخصص في عروض أفلام عربية دخلت عامها السادس هذه السنة، بعدما انطلقت بستة أفلام في دورتها الأولى كسبيل لتعزيز وجود السينما العربية في هذا المهرجان، وتوفير سند إعلامي وجماهيري لها، مع جائزة متواضعة للفيلم الفائز.
الآن، أصبحت التظاهرة إحدى أهم التظاهرات التي ينتظرها القادم إلى القاهرة، جنباً إلى جنب القطاع العريض من المشاهدين، الذين يدركون أن توزيع الأفلام في البلاد العربية، بالنسبة لهذا النوع من الأعمال المختلف عن السينما السائدة، هو أمر مستحيل للأسف.
- أزمة مزدوجة
«بيك نعيش» هو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه مهدي البرصاوي، بعد ثلاثة أفلام قصيرة نال بعضها جوائز في مهرجانات أخرى. وكون هذا الفيلم هو الروائي الطويل الأول يجعل المرء أمام توقعات شتّى أسوأها أن يعاني الفيلم مما يطلق عليه عثرات البداية، لكن عكس هذا هو ما ينتهي إليه العمل على مختلف أصعدته.
يحكي قصة عائلة سعيدة من ثلاثة: الأب فارس (سامي بوعجيلة)، ومريم (نائلة بن عبد الله)، وابنهما الصغير يوسف (يوسف خميري)، وهم يمضون وقتاً طيباً مع أصدقاء ومعارف في الريف. تمسح الكاميرا (يقودها الفرنسي أنطوان إبيريل) الجو العام منتقلة بين الوجوه وحركات الأيدي، وتحاول نقل الجو المرح لهذا التجمّع. الطريقة التي اختيرت لعكس هذا الفرح الواضح لا تشي بفيلم غير تقليدي. لكن حالما تركب العائلة سيارتها في طريق العودة على ألحان «دسك» لأغنية شعبية حديثة حتى يدرك المشاهد أن شيئاً خطيراً لا بد سيحدث. ربما حادثة طريق، خصوصاً أن الأب وراء المقود يشارك الرقص والغناء، ونصف عينه على الطريق ومنحنياته.
يقع ذلك الحادث مفاجئاً، على الرغم من توقعه، إرهابيون يطلقون النار على السيارة من دون سابق إنذار. في محاولة فارس الهرب، يُصاب ابنه. يهرع الأب وزوجته به إلى أقرب مستشفى، ثم إلى آخر مجهز بما تتطلبه عملية جراحية قد تبقي الصبي على قيد الحياة، أو تخفق في هذا الصدد فيموت.
يتطلب الصبي يوسف عملية نقل كبد مناسب، وبنتيجة التحليل يكتشف الطبيب المشرف أن الأب ليس الأب البيولوجي للولد. مفاجأة تعصف بالأب الذي عاش حياته الزوجية معتقداً أن يوسف هو ابنه. الوقع قوي كذلك على الزوجة التي كانت على علاقة برجل آخر ابتعد عنها، وهو الأب الفعلي للصبي القابع طوال الوقت بين الحياة والموت.
ما ورد آنفاً هو الجانب الاجتماعي - الأسروي التي تبدلها حادثتان: رصاصة في الكبد وأخرى في العلاقة العاطفية بين الزوج وابنته.
لكن المخرج، الذي كتب السيناريو، أوعى من أن يترك النص من دون دمجه بقضية واسعة مبللة بالوضع السياسي، فكون الأحداث تقع بالقرب من الحدود الليبية، وفي سنة من العنف الدموي هناك (2011)، سمح له بأن يعيل على فكرة أن يوافق الأب على اقتراح شخص غير معروف لديه بجلب كبده عبر الحدود، لإنقاذ ابنه، في الوقت الذي كانت فيه الأم تحاول الاتصال بمن أنجبت منه قبل 11 سنة، لكي يأتي ويتبرع بجزء من كبده، كما أوصى الطبيب.
الطرف الأول من الموضوع هو أول تعرض سينمائي عربي معروف لمسألة الاتجار بالأعضاء البشرية، ضحاياها من الأولاد الصغار. هناك ذلك المشهد الذي يعتقد فيه الأب، وقد ساق سيارته إلى نقطة بعيدة من الصحراء، حسب موعد مضروب، أنه سيستلم كبد صبي بالفعل فإذا به يستلم صبياً حُكم عليه بأن يكون ضحية بريئة يتم الاتجار بها بلا رحمة. الصبي، أسود البشرة، لا يعرف ما الذي سيحصل له نتيجة عملية المبادلة: المال وهو، والفيلم يحسن إخراجه بعد قليل من الحبكة بعدما أدّى دوره الأكبر في الإشارة إلى القضية المنسية التي يمثلها.
- ثلاثية العلاقات
قبل ذلك وبعده، يعمل الفيلم على إيفاء العلاقة المنسوفة بين الزوجين. وأحد أبرع الملامح هنا يكمن في عبارة ترد سريعاً (ولا يعمل المخرج على استنفاذها كاملاً) على لسان الزوجة التي تقول لزوجها الرافض للحديث معها بعد اكتشافه أنه ليس أب الصبي، متسائلة عما إذا كان موقفه الثائر هو ما عاد به من فرنسا، بعد أن هاجر إليها للعيش والعمل. لا يملك فارس جواباً، لكن الفيلم يلكز خاصرة هذه القضية بدورها: عودة الشرقي لتقاليده حالما يعود من الهجرة فإذا به يتصرف كما كان سيتصرف معظم أبناء وطنه.
«بيك نعيش» هو أحد عدة أفلام تونسية تتناول العلاقة بين أب وابن وأم تم تحقيقها خلال العام الماضي، وهذه السنة، وتجتمع في أنها تطرح هذه العلاقة الثلاثية بين زوجين؛ الأب فيها حاضر دائماً، لكن الزوجة غائبة في أحد هذه الأفلام، والابن غائب في فيلم آخر.
كذلك تجتمع في أن «بيك نعيش» ينضم إلى ثلاثة من هذه الأفلام في موضوع مهم هو عودة الأب المهاجر إلى تونس بعد حياة ناجحة في فرنسا. هنا التقريب النموذجي لكيف أن هذه العودة ليس فقط بدنية، بل تحمل في طياتها العودة إلى المفاهيم التقليدية، وتبنيها حال حدوث مأساة كالذي يعرضها هذا الفيلم.
ما يجعل المسألة أصعب على الزوجين حقيقة أن الزوجة هنا لم تكن تعلم مطلقاً أن ابنها يوسف ليس من زوجها فارس. الخبر الذي زُف إليها بقدر كبير من العناية من قِبل الطبيب (نعمان حمدة) فاجأها كما فاجأ، لاحقاً، الزوج عندما علم بالأمر.
بينما يحسن السيناريو التعامل مع الحاضر تحت تأثير ذلك الماضي، يحسن كذلك البقاء في الحاضر عوض فتح نافذة عريضة صوب الماضي. يكتفي بالمفاجأة، وبالحوار الساخن، ومحاولة الزوجة إيضاح أنها لم تكن تعلم، وثورة الزوج، وكل ذلك يفي بالكثير، ويلغي ما كان سيؤول إلى ميلودرامية الموقف لو أن الفيلم سمح لنفسه النهل من الأمس على نطاق واسع.
لكن النهاية هي التي تشرئب بعنقها في عدم تجانس. عملياً هناك إسراع مبرر (ولو غير محبّذ)، في الدقائق العشرين الأخيرة. لكن ما يجعل الفيلم يبدو وقد رزح تحت ضغط إقفال حكايته أن تقديم شخصية سامي، الأب الطبيعي للابن، تم في الدقائق الأخيرة، وموافقته سريعة (ولو أنه سبق وأن رفض ذلك عبر اتصال هاتفي مسبق) بالتالي ليست مبررة جيداً. لو تم تقديم سامي بمشهدين أو ثلاثة سابقة لانضبط موقفه تحت شروط أكثر إقناعاً.
«بيك نعيش» فيلم صلب في موضوعه على جانبي هذا الموضوع. الحكاية العائلية معالجة بإتقان، والعلاقة بين الزوجين موزعة في مشاهد متساوية ومن دون حكم لصالح آخر. الحرب الليبية، التي تحتل جزءاً أصغر من الفيلم، تقحمنا فيما هو خطير وغائب ومغيّب، وهو التجارة بمخطوفين من الأولاد (نراهم يهرعون إلى شاحنة صغيرة كالماشية لسوقهم بعيداً) من قِبل رجال لم تعد تحيا في قلوبهم أي عاطفة ولا في ضمائرهم أي روادع أو واعز.