الجاحظ ذلك الطريف الحكيم

ارجو ألا أبالغ إذا ما قلت بأنني أعتبر أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أعظم كاتب فكاهي ساخر ظهر في العالم في القرون الوسطى. من منا لم يسمع بكتابه الشهير «البخلاء» وهو يتعرض فيه إلى بخل الأعاجم، ولا سيما أهالي مدينة مرو. يرى البعض أنه في هذا الكتاب أعرب عن ميوله القومية العربية، فبينما أوقع البخل على الأعاجم فقد ترك صفة الكرم للعرب. له كتب أخرى بليغة. وقد سبق لي أن ذكرت كتابه عن المعلمين وحمقهم.
غير أنه كثيراً ما كان يروي الفكاهات والطرائف عن نفسه، كما يفعل أي كاتب ساخر آخر. حكى فقال: «نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت: بم أكنى؟ فقالوا بأبي عثمان.
وهو ما حصل لأحد الزملاء. نسي اسمه. وكان ينوي توقيع وثيقة فلم يتذكر اسمه. راح يحك رأسه ويقوم ويقعد في ذهول باين. رآه زميل آخر بهذه الحالة فقال له: ما لك يا عبد الستار؟
فتبسم راضياً وقال: آه، نعم! عبد الستار، عبد الستار أحمد. تناول القلم وسطر توقيعه سريعاً قبل أن ينساه ثانية.
كان الجاحظ إماماً من أئمة المعتزلة. ومال هؤلاء إلى تغليب العقل والعقلانية. ويظهر شيء من ذلك في كتاباته. قال:

الصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما لا ترجو فيه الغنم في العاقبة.
والحلم حلمان، فأشهرهما حلمك عمن هو دونك.
والصدق صدقان، فأعظمها صدقك فيما يضرك.
والوفاء وفاءان، أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه.

وقد تأثر المعتزلة بالتراث الإغريقي وحكمة اليونان. وقد ظهر شيء من ذلك في كتابات الجاحظ. قال: إن يونانياً اسمه ديسيموس اختلط عقله فأسمعه رجل كلاماً غليظاً وفحش معه بالقول. تحلّم عليه ديسيموس ولم يجبه. فقيل له ما منعك من مقابلته بالمثل، وهو قد تعرض بك؟
قال أرأيت لو أن حماراً رمحك، أكنت ترمحه؟ قال لا. فإن نبح عليك كلب أكنت تنبح عليه؟ قال لا. فإن السفيه إما أن يكون حماراً أو كلباً.
كثيراً ما حيرني لقب «الطفيلي». وقد فسر لنا الجاحظ ذلك بقوله: إنه كان في الكوفة رجل من بني عبد الله بن عطفان وكان يسمى «طفيلاً»، وهو طفيل بن زلال الكوفي. وكان أبعد الناس في طلب الولائم والأعراس. فقيل له لذلك: طفيل العرائس. وصار ذلك صفة له لا يعرف بغيرها. فصار كل من كانت تلك طعمته يقال له طفيلي. والطعمة هي الانهماك في الآكل.