«الشرق الأوسط» في مهرجان القاهرة الدولي(3): حكايات غريبة تنجز نجاحاً قصير الأمد

أوحت الكلمة القصيرة التي ألقاها المخرج الأميركي تيري غيليام عندما اعتلى المنصة في الصالة الرسمية لدار الأوبرا لتسلم جائزته الشرفية احتفاء به وبسينماه بمخرج يرفض أن تتقاعد أحلامه. بالتالي يرفض أن يتقاعد ولو أنه، وكما قال، كان بدأ يعتقد أنه اقترب من حافة نسيان المحافل الدولية وشركات الإنتاج به.
إنه من الصعب على مخرج يختلف في طموحاته وفي اهتماماته ورؤاه أن يجد عملاً هنا. من الأصعب إذا كانت رؤيته تلك منفصلة تماماً عما يروج في سوق العروض السينمائية. تيري غيليام من هذا النوع الذي يتناقص وقد يؤول إلى الانقراض. ولد قبل 77 سنة في مدينة مينابوليس، ولاية مينيسوتا، وأحب الرسم منذ أن تعلم الكتابة، لكنه لم يكترث لشق طريق في أي منحى فني إلا من بعد أن درس السياسة والفيزياء وتخرج منهما بشهادات كانت تكفيه للعمل في هذين الحقلين لو أراد. في أحد الأيام التقى بالممثل الكوميدي البريطاني جون كليز وهذا أقنعه بالتمثيل في حلقة تلفزيونية أنتجتها محطة BBC بعنوان «السيرك الطائر لمونتي بايثون» (1969)‪.
لجانب ظهور محدود له في ذلك العمل، قام غيليام برسم المشاهد الأنيميشن التي احتواها الفيلم. قامت الفكرة بكاملها على توفير كوميديا سوريالية ساخرة وغير تقليدية على الإطلاق وهذه قادت إلى بقائه في بريطانيا (منذ ذلك الحين) والعمل على الانتقال إلى الإخراج سنة 1975 بفيلم «مونتي بايثون والكأس المقدسة».
هذا الفيلم كان بداية متعددة التوجهات فهو كتب ورسم وأنتج ومثّل وأخرج عدداً من الأفلام التي عكست نظرته الساخرة للحياة واستلهمت، فيما بعد حكايات فانتازية مستلهمة من روايات أدبية مثل «عصابة الزمن» Time Bandit و«مغامرات البارون منشوزن» (The Adventures of Baron Munchausen). هذا بالطبع جنباً إلى جنب أعمال كثيرة من تأليفه مثل «اثنا عشر قرداً» و«ذا فيشر كينغ».
لكن أعمال غيليام السينمائية (كمخرج) لم تزد عن أربعة عشر فيلماً والسبب مزدوج: من ناحية هي أفلام صعبة التخطيط والتصوير والتركيب، ومن ناحية أخرى هي أفلام صعبة الترويج والتسويق.
تميز الكوميديا كل فيلم من أفلامه لكن النوع الكوميدي يتألف بدوره من أنواع وهو عمد إلى سينما التهريج (Slapstick) في البداية. لكن هذه المدرسة التي من الصواب النظر إليها بالريبة على أساس أنها أقل أنواع الكوميديا قيمة فنية تختلف عنده من حيث إن غيليام استخدمها خصوصاً في سلسلة «بايثون» كوسيلة ساخرة حتى من النص السينمائي المعهود. قوامها صناعية ومصطنعة إلا أن هناك نقادا قدّروها على هذين الأساسين رغم ذلك.
بعد فيلمه الثاني Jabberwocky سنة 1977 حقق غيليام «معنى الحياة» الذي وضعه على عتبة بداية جديدة. هو أكثر التزاماً هنا بالتقليد من دون التخلي تماماً عن رؤيته المعهودة وقلبه ناصية الأمور لتزيد من غرابة ما يعرضه على الشاشة.

ثقة أعلى
تتشابه أفلام غيليام بعضها مع بعض (كذلك تتشابه أفلام فديريكو فيلليني أو أفلام ألفريد هيتشكوك على أكثر من نحو). على سبيل المثال نجد «معنى الحياة» يسير في المنهج ذاته لفيلم «عصابة الزمن» الذي يشبه «معنى الحياة» على أكثر من وجه. والعلاقة بين فيلميه «برازيل» و«الأخوان غريم» محفورة بخطوط وملامح متشابهة. ثم نجد أن كل أفلام غيليام تلتقي تحت مظلة فنان يريد أن يفكر على نحو مختلف ويحقق أفلاماً مختلفة تناقض أي اختيار سرد تقليدي يمكن أن يعيد سينماه إلى أرض سهل التعرف عليها والاندماج كاملاً معها.
«عصابة الزمن» مهم في هذا النطاق لأنه نموذجي الدلالات فغيليام لا يكتفي بأن يستعين فيه بممثلين أقزام بل يضع الكاميرا في مساواة قاماتهم القصيرة طوال الوقت لدرجة أن ظهور أي ممثل طويل القامة سينضوي على بعض جسده وليس كله. بالتالي وجوه الممثلين ذوي الطول العادي تختفي عن الظهور تبعاً لاختيارات المخرج.
حين خرج «عصابة الزمن» سنة 1981 للعروض التجارية فوجئ المخرج بنجاحه. آنذاك كان تحقيق 40 مليون دولار بمثابة نجاح جيد خصوصاً لفيلم يناهض التقليد، لكن الفيلم حقق هذا المبلغ فقط في الولايات المتحدة، وإذا ما أضفنا ما حققه حول العالم (نحو 25 مليون دولار أخرى) نقف عند تيري غيليام وقد بات أكثر ثقة بما ينجزه.
تبعاً لذلك ازداد غيليام يقيناً بأنه يستطيع أن يحقق المزيد من النجاح إذا ما توفرت لديه المزيد من الميزانيات. وكان على حق في ذلك ولو أن الأرضية كانت لا تزال رخوة وغير ثابتة. فأفلام من هذا النوع تكسب صاحبها، إذا ما نجح واحد منها، موقعاً يمكن من خلاله تحقيق أفلام أخرى مشابهة لكن هذا وحده لا يعني أنها ستكرر النجاح ذاته.
في سنة 1985 كان لغيليام موعد آخر مع النجاح تمثل في فيلم «برازيل» الذي كان أحد أفلامه الجادة من غير الاستغناء عن السخرية التي يمكن إطلاقها في أي عمل من أي نوع. الحكاية هنا في نطاق موظف عادي يجد نفسه وقد انتقل من منفذ أمين لوصايا الشركة التي يعمل فيها إلى عدو لها. في طيات ذلك يرتدي الفيلم الطرح الرمزي فالموظف بيروقراطي والشركة قد تكون مؤسسة حكومية والعداوة قد تكون على مستوى السلطة أيضاً.
الفيلم ذاته كان مناسبة جيدة للتعليق على التقدم الصناعي والتقني (كانت الثمانينات التمهيد الحثيث للثورة الحالية في هذا المجال) وكيف أنه يتعارض مع مفاهيم العلاقات الإنسانية في المجتمع.
الديكور الذي أوجده غيليام لبعض مشاهده يؤسس لعالم مغلق والعالم المغلق يؤدي إلى فوضى تختلف عن تلك التي نعيشها نحن في بيئة خارجية وداخلية مختلطة. فوضاه نتيجة توق ما للحرية من المكتب ومن روتينية الحياة وهذا التوق يدفع بطل الفيلم (جوناثان برايس) للعيش في أحلامه المستحيلة. فانتازيات لا يحق له الحديث فيها وعنها لأنه في عصر مستقبلي ينتمي إلى رواية جورج أورول «1984».
بناء على نجاح «برازيل» و«معنى الحياة» و«عصابة الزمن»، وجد غيليام طريقه للتعاون مع هوليوود كمؤسسة داعمة لفانتازياته. هذه لديها حبل قصير تمده لتنفيذ مثل هذه المشاريع فالإيراد لكل فيلم على حدة هو الذي يبرم، أو لا يبرم، الاتفاق للفيلم المقبل. وهكذا، وجد غيليام نفسه يتراجع في نهاية التسعينات وإثر المزيد من النجاحات الفنية والتجارية في أفلام مثل «اثنا عشر قرداً» (1995) و«خوف وازدراء في لاس فيغاس» (1998).
في العام 2013 أنجز فيلماً لم يحز على أي إقبال يذكر هو «النظرية صفر» ونتيجة فشل ذلك الفيلم انتظر خمس سنوات قبل أن ينجز في العام الماضي «الرجل الذي قتل دون كيشوت» الذي فشل بدوره في تحقيق النجاح.