مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

سقوط صنعاء العحيب

نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» في صدر صفحتها الأولى يوم الأربعاء 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 صورة لشابين من مقاتلي جماعة الحوثي، بعد أن سيطرت الجماعة على صنعاء. الشابان يحملان السلاح، ويرتديان زيا في غاية البساطة لا ينم عن أنهما مقاتلان، فالمقاتلان ينتعل كل منهما «شبشبا» ولا يوحي هذا بأننا أمام ميليشيا منظمة أو مقاتلين قد ركضوا وراء «أعدائهم» ! فهذه الملابس البسيطة المتواضعة لا تساعد على الكر والفر، فكيف سقطت صنعاء بـهذا الشكل؟ ما الذي جرى، وكيف جرى؟
كيف تراجع الجيش اليمني بهذه السهولة، وهو المنوطة به حماية العاصمة أمام جماعة تبدو أنها غير مهيأة تدريبيا؟ أين القبيلة والجيش والبوليس؟ كيف لمن جاء ماشيا متبخترا بهذه الملابس الفضفاضة أن يأخذ عاصمة مثل صنعاء؟ الأسئلة المنطقية كثيرة وربما تكون لها إجابات أكثر عبثية مما رأيناه، لكن المؤكد هو أن هناك شيئا عطنا في اليمن، كما وصف شكسبير الدنمارك في «هاملت».
طريقة جماعة الحوثي التي سيطرت على صنعاء مكشوفة وكاشفة لكثير، ليس عن اليمن وحده بل عن كثير من الدول العربية المسماة مجازا بالحديثة. فأنا اليوم لم أعد أستغرب أن تأتي أي جماعة من مكان ما، ربما حتى ليست عربية، لتسيطر على عاصمة عربية! ألم تسيطر جماعة لا نعرف لها أصلا من فصل تسمي نفسها «داعش» على نصف العراق وثلث سوريا؟ أين الجيوش التي كانت ترهب المواطنين قبل الربيع، وأين قوات الأمن.. أم أنها كانت وهما؟ هل كان ما يسمى حكم الحديد والنار في مصر وسوريا واليمن وليبيا هو مجرد حكم بالوهم، وإلا كيف نفسر أن تؤخذ عاصمة بهذه البساطة من أناس بسطاء؟
أم أنه قبل الربيع وبعد الربيع، كان هناك شيء عطن في تلك العواصم لم نكن نعلمه، أو ربما لا نعلمه حتى الآن؟
كيف أخذ «الإخوان» القاهرة لمدة عام؟ وكيف أخذ الحوثيون صنعاء؟ وكيف أخذت الجماعات المختلفة سوريا وليبيا وحتى تونس؟ أسئلة لم نجب عنها بعد.
منذ أكثر من خمسة أعوام بدأت مشروع كتاب عن «فشل الدولة الحديثة في تكوين جذور لها في العالم العربي». وكان أساس فرضيته أن الحركات السياسية والاجتماعية، وكذلك الطائفية، تتعاظم قوتها على حساب الدول. وكان هناك فصل كامل عن جماعة بدر الدين الحوثي ونشأتها من جماعة الشباب المؤمن، إلى ما آلت إليه الآن، وكيف تبنت ليبيا القذافي وسيف الإسلام الجماعة نكاية في المملكة العربية السعودية، ثم انتقلت كفالة الحوثيين إلى شراكة بين ليبيا وقطر ومن بعدهما إيران، وكيف أن جماعة الحوثي ولدت نتيجة لصراعات إقليمية في سياق دولة هشة أكثر من كونها نتاج وضع داخلي. ورغم كل الاهتمام والدراسة لم يخطر ببالي يوما ما أن تسيطر جماعة الحوثي على صنعاء؟ كيف لحركة محدودة بدأت في صعدة أن تسيطر على العاصمة؟ والحوثي نفسه كان عضو برلمان عند علي عبد الله صالح، يعاديه مرة ويساومه مرات.. فكيف لهذه الجماعة المهلهلة والمكونة من مجموعات من البسطاء أن تأخذ العاصمة اليمنية من دون قتال يذكر؟
يجب ألا يأخذنا الحماس في ما يخص دور إيران أو ليبيا القذافي أو قطر، فنحرم أنفسنا من قراءة المعاني الكاشفة التي حملتها صورة الشابين التي نشرتها «الشرق الأوسط» في صدر صفحتها الأولى يوم الأربعاء الماضي. فصورة الشابين توحي بأن هذه المجموعة لا تملك الإمكانيات التي تؤهلها للهجوم على عاصمة والسيطرة عليها.
لو أمكن هذا لكان من الواجب أن يحاكم مسؤولون في الدولة برمتها وعلى رأسها الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي حكم اليمن لمدة ثلاثين عاما، ولكن أعتقد أنها كانت مثل الحوثيين على الأقل.
الحوثيون فقراء كما تظهر صورة الشابين، وكما تقول كل الإحصاءات، فهم يعيشون في بساطة من العيش، رغم ما تراه في أيديهم من سلاح. وكذلك كان جنوب لبنان عندما أهملته الدولة اللبنانية فتقاسمته حركة أمل و«حزب الله»، والآن كله لـ«حزب الله» تقريبا. ما حدث في لبنان من تجييش فقراء الجنوب وتحويلهم إلى ميليشيا طائفية يحدث في اليمن.
والفقير اللبناني أو اليمني أو السوري أو الليبي، ليس لديه ما يخسره من جراء تلك التقلبات السياسية، فهو كما وصفه الشاعر اللبناني العامي طلال حيدر والذي صادف أنه شيعي أيضا «متل الفقير اللي قاعد بضو القمر عم يراشق الدنيا بحجر».
فقراء هوامش الدول سيبقون دوما يرشقون الدنيا بحجر، والدولة بحجر، والأمة بحجر، فعلى ما يبدو قد فشلت الدولة الحديثة في عالمنا العربي أن تكون لها جذور.
حركة حماس أخذت قطاع غزة، و«حزب الله» كاد يأخذ بيروت أو أخذها وتراجع، و«إخوان مصر» أخذوا القاهرة لعام كامل وصفق لهم كثيرون. تسقط العواصم بثقل الفقراء نعم، ولكن أيضا العواصم تسقط عندما تسقط الثقافة. وتلك عواصم سقطت ثقافيا قبل أن تسقط سياسيا، دول فشلت ثقافيا قبل أن تفشل سياسيا حيث أخذتها جماعة بهذا الشكل العبثي.
ومع ذلك فما حدث في اليمن ما زال لغزا، فكيف لجماعة الحوثي أن تغير على ديار حاشد وبكيل ولا تنتفض القبيلة؟ جماعة الحوثي تهين الجيش اليمني ولم ينتفض الجيش أو يحرك ساكنا، هذا لغز محير حقا. لو أخذ الحوثيون صنعاء بهذه البساطة، فلماذا نستغرب أن تسقط قاهرة مبارك في ثمانية عشر يوما؟ وما الذي يمنع السقوط وتكراره في كثير من عواصم الدول العربية الفاشلة ثقافيا وسياسيا؟
اختيار صورة الشابين الحوثيين كصورة رئيسة للصفحة الأولى كان اختيارا كاشفا وموفقا، وفيه رسالة واضحة بشأن حالة الفشل والوهن التي تسود اليمن، وتحذير أيضا من انتشار عدوى اليمن أو انكشاف الدول على غرار اليمن.