أم كلثوم ونجوم عصرها في معرض فني بالقاهرة

في معزوفة بصرية، يتجاور فيها الصوت والصورة واللون، تقف أسطورة الغناء العربي أم كلثوم، شامخة بين جمهورها، وكوكبة من أساطين الموسيقى الذين رافقوا رحلتها في محطات كثيرة، عبر باقة من الألحان الخالدة، لا تزال قادرة على أن تمتعنا وتمنحنا نفسها بشكل جديد.
بهذه الروح نتأمل لوحات معرض «صبا»، إحدى مقامات الموسيقى الشرقية المعروفة وقد اختاره الفنان وجيه يسى عنوانا لمعرضه، حيث وجده معبرا عن عالم أم كلثوم وموسيقى عصرها، مؤكدا أنه لم يتحمس لكثير من العناوين المباشرة كأن يطلق عليه معرض أم كلثوم أو سيدة الغناء العربي أو ما شابه ذلك.
قاعة بيكاسو الكائنة بحي الزمالك بالقاهرة التي احتضنت المعرض شهدت زحاما غير عادي بجمهور من مختلف الأعمار الكبار جاءوا ولديهم حنين متوقع لزمن انقضى، والشباب من طلبة الفنون الجميلة جاءوا لمشاهدة هذه التجربة في فن البورتريه لفنان مصري يعيش في تورونتو بكندا، وحرص الفنان على أن يستطلع آراءهم وقد تفاجأ بأنهم يستمعون لأم كلثوم ويعشقون فنها فشعر بالاطمئنان لوجود جيل جديد لم يعاصرها لكنه يحبها، هذا الحب الذي، على حد قوله، «لم يأت من فراغ وإنما من موهبة طاغية وصدق الفنانة ودأبها وإخلاصها لفنها على مدى عمرها؛ لذا تبقى السيرة أطول من العمر لها ولكل المبدعين الذين يظل الزمن شاهدا على عبقريتهم».
أجواء الغربة وظروف إقامة الفنان في تورونتو بكندا جعلتاه يعيد اكتشاف سيدة الغناء العربي في لوحاته، وكما يقول: «لم أكن مستمعا جيدا لأم كلثوم، لكن مع هجرتي لكندا وجدت نفسي مشدودا لها بقوة وأصبحت أغنياتها رفيقي في أغلب الأوقات واكتشفت عبقرية الصوت والأداء والألحان وصرت من عشاقها ولذا ظلت حاضرة في كل معارضي، فلا بد من صورة لها أو أكثر في كل معرض أقيمه، وبينما كنت أعد لهذا المعرض فكرت أن أهدي كل لوحاته لها، ثم رأيت أن أضيف لوحات لبعض نجوم عصرها الذين صاغوا ألحانها فرسمت عدة لوحات لعبد الوهاب ورياض السنباطي وبليغ حمدي وكنت أتمنى أن أضم لهم بعض الشعراء الذين أثروا تجربتها الغنائية، لكن كان هذا يفوق قدرة قاعة العرض فاكتفيت بذلك».
ولكي يقدم لنا لوحات من وحي أغنيات أم كلثوم استعاد الفنان كثيرا من الفيديوهات التي تضمنت حفلاتها وكما يوضح: «كنت أثبت شريط الفيديو لساعات على إحدى حفلاتها لأستشف روحها في اللوحة، خاصة أنني لا أقدم صورة فوتوغرافية لها، إنما هي لوحة في عمل فني يتضمن رؤيتي وإحساسي، وفي كل صورة ثمة وجه مختلف، فتارة نجدها وهي منسجمة في الغناء، وتارة وهي جالسة تتابع المقدمة الموسيقية، وأخرى وهي تمسك بمنديلها الشهير ورابعة تكشف فساتينها المميزة التي تكمل شخصيتها على المسرح، واللوحات لا تنتمي لأغنية معينة بل من وحي كل حفلاتها الغنائية»، ويؤكد: «لا أميل لإطلاق أسماء على لوحاتي وأشعر أن هذا سيحد من خيال المتلقي الذي قد يكتشف شيئا آخر لم يرد في ذهني».
فن البورتريه الذي جذب الفنان منذ طفولته يعد أحد الفنون المعقدة لاعتماده على تقديم الشخصية عبر ملامح الوجه، لكن وجيه يسى يرى البورتريه تشريحا علميا لوجه الشخصية، يتطلب تدقيقا كبيرا ورؤية فنية شديدة الحساسية، قادرة على أن تلتقط ما وراء الملامح من مشاعر وانفعالات.
لوحات معرض «صبا» تحفل بخطوط وتشكيلات لونية رائعة، حيث اختار الفنان وجيه يسى ألوان الأكوريل التي تتطلب جرأة وصبرا في التعامل، بخاصة في رسم الأشكال المركبة من عدة طبقات لونية لتحديد مساقط النور والظل للشكل، وتعزيز دورهما في إنضاجه فنيا.
يقول يسى: «أستمتع جدا في رسمي للبورتريه بالألوان المائية رغم صعوبتها، وقد مكثت 15 عاما أرسم لوحاتي بها وهي ألوان حساسة للغاية، ولا بد أن يحبها الفنان لكن هذا المعرض يتضمن أيضا لوحات مرسومة بالزيت»، وعن «الباليته» (رقعة الألوان) الخاصة به يؤكد: «هي جزء من تكنيك كل فنان ينمو مع الوقت والخبرة وأنا أميل إلى الألوان البنفسجية واللون الأصفر بدرجاته لكن اللون عموما لا يغرد منفردا ويظهر أكثر بما يحيطه من ألوان أخرى».
وجيه يسى، 65 عاما، فنان تلقائي لم يدرس الفنون التشكيلية وإنما درس الأدب الإنجليزي لكن موهبته كشفت عن نفسها منذ كان طفلا بهر أسرته وأساتذته بخطوطه وألوانه، وكما يقول: «علمت نفسي بنفسي ومارست الفن كهواية؛ لذا لم أتأثر بأحد ولم أقلد أحدا».
ورغم هجرته لكندا فإنه لم ينقطع عن زيارة مصر حيث أقام بها سبعة معارض كما يحرص على زيارتها خلال فصلى الربيع والخريف، ويمتلك غاليري خاصا به في تورونتو، ورغم إيمانه بأن الفن لغة عالمية لكنه يرى أنه وليد الثقافة وإيقاع الحياة أيضا، مشيرا إلى أن فناني كندا يهتمون بفن التجريد بشكل أكبر، بينما يرى أن حركة الفن التشكيلي في مصر تمثل ثورة من حيث ازدهار المعارض وظهور مواهب شابة مبشرة.
ويمثل معرض «صبا» للفنان حالة تحد يكشفها لنا قائلا: «نجاح المعرض سبب لي حالة من التحدي فدائما أسأل نفسي وماذا بعد، فكلما أقمت معرضا جديدا أشعر أنه يظل تجربة ومحاولات وأنتقد أعمالي بقسوة، ورغم أنني أرسم منذ نصف قرن فما زلت أقف على شاطئه، فالفن مجال ثرى وضخم وأرى أن النقد الذاتي هو الذي يدفع الفنان لتطوير نفسه».