السعودية وبريطانيا... «تسمية الإرهابي»

تبدو آثار التقنية مثل طوفان مهول، لم يبقِ ولم يذر. تدخلت التقنية بكل مجال، وفي الإرهاب يبدو ضبط منصات التقنية ومحتوياتها أكثر تعقيداً من وسائل الإعلام الأخرى. قبل أيام نشرت جريدة «الشرق الأوسط» خبراً بعنوان: «مذكرة سعودية بريطانية تؤكد ضرورة تصدي منصات التواصل لخطابات التطرف - أول مذكرة استرشادية تصدر عن التحالف الدولي ضد (داعش) منذ 2014» الهدف منها: «بذل مزيد من الجهد واتخاذ الإجراءات الفعالة لحث شركات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على إزالة المحتوى المتطرف والإرهابي بجميع أشكاله من جميع المنصات الرقمية، إضافة إلى مراعاة استخدام المصطلحات الدقيقة لوصم المتطرفين والإرهابيين بالصفات المناسبة لحالهم، وعدم تسميتهم مسميات قد تسمح بتعاطف الآخرين معهم كتسمية تنظيم داعش باسم دولته المزعومة».
بحسب الخبر فإن هذه المذكرة تأتي: «نتاجاً لتعاون رئاسة أمن الدولة في السعودية ممثلة في (الإدارة العامة لمكافحة التطرف)، والتحالف الدولي ضد (داعش)، ممثلاً في (خلية الاتصال ضد «داعش») في عقد حلقة نقاش دولية بعنوان: (التكامل في مكافحة رسائل التنظيمات الإرهابية: «داعش» نموذجاً)، في مدينة الرياض».
ترسخ المذكرة لضرورة ضبط المصطلحات، لأن «استراتيجيات التسمية» للأعمال الإجرامية والعنيفة مرّت بأطوارٍ فاضحة، في الطور الأول اعتبرها البعض «إخواننا بغوا علينا» وجعلوا قتلاهم في نفس منزلة رجل الأمن المفتدي نفسه بوطنه ومجتمعه، والبار بقسمه، المخلص لمهنته، هؤلاء كانت لديهم برامج على الشاشات ومنصات مؤثرة على مرأى ومسمع من الناس، والطور الآخر، بدت فيه الجماعات الإرهابية «فئة ضالة» ولا تقل هذه التسمية عن سابقتها، لأنها تجعل من الإرهاب وممارسته خطأ محتمل العدول عنه، وبقيت تتردد هذه العبارة لفترة طويلة، وأخذت الأدبيات والتسميات «المنصفة للإرهاب»! تتصاعد داخل التيارات المتطرفة، إذ ساوى أحدهم بين الإرهابي ورجل الأمن الذي يقاومه، وفي هذا جرم مضاعف من الناحية العلمية، فالمواجهة مع الإرهابي مردها الأساسي إلى موقع الجندي باعتباره ممثل الدولة، وحارس مصالحها، ومهمة الدولة الحديثة أن تقوم باستخدام العنف واحتكار أدواته من أجل ضبط الواقع، كما يعبر الفيلسوف ماكس فيبر، ولكن الاستراتيجية اللغوية المتطرفة تسعى لتحويل مقاومة الإرهاب بأنه إشعال له، وإذكاء لنار الحقد بين خلاياه، والحل في «المصالحة» كما في المبادرة الصحوية التي طرحت في فترة ما بعد عام 2003 من رموز صحوية موجهة إلى الدولة، وفحوى المبادرة ورسالتها أن الدولة إن هي انجرت للحوار مع تنظيم القاعدة فإنها تخلع عليه عباءة الحزب السياسي، وهنا الخطورة التي انتبهت لها الأجهزة الأمنية السعودية بشكلٍ عميق آنذاك.
ومما تضمنته المذكرة في نصها الآتي: «جمع أفكار وتحليلات متعلقة بطريقة استهداف الجماعات الإرهابية للفئات المعرضة للتأثر، دراسة ومعالجة العوامل الدينية والاجتماعية والنفسية المتعلقة بالسلوك المتطرف، ومواجهة السرديات، وتوجيه الرسائل الإرهابية على منصات التواصل الاجتماعي، وتعزيز سرديات بديلة كالتسامح والتماسك الاجتماعي والوسطية لبناء مقاومة طويلة الأمد لدى المجتمعات المعرضة للتأثر، وتحميل شركات التواصل الاجتماعي المسؤولية عن إزالة المحتوى المتطرف من منصاتها، ووضع تشريعات تخص ألعاب الفيديو العنيفة لمنع تعرض القاصرين للعنف المتطرف، وبناء شراكات مع المنظمات المجتمعية لمواجهة خطاب التفرقة والعنصرية، وإدراج مبادئ التعايش السلمي، والتسامح والاحترام، وتشجيع استخدام المصطلحات المناسبة عند الحديث عن الإرهابيين تجنباً لشرعنة آيديولوجيتهم عن غير قصد، أو تضخيم أفعالهم، والتعاون إقليمياً ودولياً لمواجهة الدعاية والشبكات الإرهابية، والتشارك في المعلومات والأفكار وأفضل الممارسات مع الشركاء المحليين والإقليميين والدوليين».
هذا البند من مذكرة التفاهم مهم، وأقترح البناء عليه ضمن عنصرين:
*اعتبار المؤثر الفكري هو الأساس في شرارة العمل الإرهابي، وباقي المؤثرات تأتي بمرحلة تابع، ووضع خطة كاملة يتم اتباعها بين المؤسسات ذات الاختصاص، وبخاصة منها الدينية، بما يتبعها من منابر ومطبوعات وأفراد لديهم صلاحية الحديث وتوجيه المجتمع، والتعليم ومؤسساته وما يقع على عاتقه من مسؤوليات تأليف المنهج، وتأهيل المعلمين والرقابة على أفكارهم، وطرق إيصال المعلومة أثناء شرحهم للنصوص وبخاصة منها الدينية، أو الأحداث السياسية، لأنها تساهم في خلق مناخات مأزومة قد تضاعف من أعداد المستعدين للتجنيد من قبل التنظيمات المتطرفة.
*اشتراك المنظومات الإرهابية، الشيعي منها والسني، بأفكار مشتركة، مثل الحاكمية، وتكفير الحكومات والمجتمعات، وحمل السلاح، وعدم الانجراف وراء «التمييز السياسي» الذي يخاتل البعض لخلعه على بعض المنظمات باعتبارها «مقاومة لإسرائيل» وشرح تاريخ هذه المنظمات الإرهابية وأعمالها الدموية ضد السفارات والقنصليات والأبرياء والمدنيين والمجازر التي ارتكبوها في الخليج وسوريا ولبنان ومن هذه الميليشيات حزب الله، ومن ثم الحركات الشيعية المنضوية معه. من أجل حرب عنيفة على الإرهاب لا بد من القضاء على مفهوم «المقاومة» الملوث تاريخياً بدماء الأبرياء.
محيط التقنية لا غور له، والإرهاب وإن بدا اليوم أضعف، ولكن الخطورة من تجدد أطواره وأحواله، ولنقرأ سبب «احتجاب الهوية» لزعيم «داعش» الجديد، قد يبدو المستقبل أكثر غموضاً في تحديد «هوية الإرهابي».