الدرعي... مشروع تحديثي مبكر

«نقد بجرأة دعاة التقليد وأنصار الجمود، واجه التخلّف في مظاهره الفكريّة والسياسيّة والدينيّة، دحض الأطروحات الرجعيّة، قاوم الاستعمار، طرح في كتاباته بعمق ووضوح قضايا الشأن العام، ناقش في أعماله الفكريّة والإبداعيّة المحظور السياسي والأخلاقي والديني، تميّز في جل الأجناس الإبداعيّة والفكريّة»، هكذا كتب وغيره كثير عن المفكّر والأديب التونسي أحمد الدرعي، الذي يحتفي به الآن «المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون» (بيت الحكمة) عبر نشر آثاره الكاملة في سلسلة منشورات سنة 2019.
وجاءت الأعمال في جزأين ضخمين، يتضمّن الجزء الأوّل الآثار الإبداعيّة (604 صفحات)، فيها النصوص المسرحيّة والروائيّة المتصلة بإشكالات الصراع بين القيم المحافظة ذات الطابع الرجعي والآراء التحرريّة المتشبّثة بالأطروحات التقدميّة، معتمدا أسلوبا ساخرا يكشف عاهات اجتماعيّة وسياسيّة وأخلاقيّة، ويترجم وحشيّة الاستعمار الفرنسي والقوى الداعمة له مثل بعض «فقهاء المسلمين الذين منعوا الاجتهاد.. وكانوا حجّة للإسلام وحجّة للحماية في آن واحد لتأييد التقاليد والعوائد المحترمة» (الجزء الأوّل ص 24). فمن الطبيعي جدا أن تجهل العقول الممنوعة من الاجتهاد الأبعاد الحقيقيّة لمعاهدة باردو 12 مايو (أيار) 1881، التي برّرت ما سمي بالحماية الفرنسيّة، ومن البديهي جدا أن ترفض العقول الممنوعة من الاجتهاد الفكر الحدادي التحديثي (فكر الطاهر الحداد)، وأن تعادي منطق التجديد والخطاب التنويري، وهذا ما كشفه أحمد الدرعي في نصوصه المسرحيّة، والشعريّة، والروائيّة، بلغة تجمع بين مفردات الضاد الفصيحة وعبارات المعجم العامي.
ويحتوي الجزء الثاني (592 صفحة) على الآثار الفكريّة المتعلّقة بقضايا القياس، والشريعة بين أطروحات التقليديين المتشبثين بمنطق الجمود ومقاربات التجديديين المؤمنين بالاجتهاد وديناميكيّة النص من أجل تطوير الشريعة والنأي بها عن التوظيف السياسي البراغماتي والآيديولوجي الموجّه، كما تضمّنت الأعمال الفكريّة انتصار أحمد الدرعي للطاهر الحداد ضد «المتفيقهون.. الذين أغلقوا باب الاجتهاد» (الآثار الفكرية ص68)، «في حين أن الإنسان لا يملك بيع نفسه للغير بأي ثمن» (نفس الصفحة)، أي لا يجوز لأي كان أن يفكّر لغيره نظرا لعدم مشروعيّة الوصاية الفكريّة، فالاجتهاد في رأيه يتنزّل ضمن حرية الرأي ويختلف باختلاف ذهنية المجتهدين لأنّه شاشة المعرفة فلماذا نكسر زجاجتها؟ لقد أدخل الطاهر الحداد وفقا لأحمد الدرعي عنصرا جديدا في فهم الشريعة يتمثّل في «روح الإسلام» تجنبا للقراءة السطحيّة المركّزة على جزئيّة لا يمكن فهمها بعمق إلا متى وضعت في سياقها العام.
كما اهتمّت نصوصه الواردة في هذا الجزء بآفة التشبّث بالرئاسة لأنّها أكبر علل الهلاك وخراب النسيج الاجتماعي و«تشتيت شمل الأمة» (ص211)، مقارنا بين الأنظمة الديمقراطيّة القائمة على مبدأ الإرادة العامة والأرستقراطيّة المرتهنة بالتعيين المتوارث. لذلك دعا في مقاربته للنزاع على السلطة إلى «رفع المستوى الثقافي للشعب» من أجل مقاومة الاستبداد، منسجما في ذلك مع فلسفات التنوير المؤمنة بالوعي النقدي باعتباره خلاصا من عبوديّة الثيوقراطيين والأرستقراطيين وكافّة أشكال النظم القمعيّة. وفي سياق دفاعه عن قيم العدالة والمساواة تجسيدا للمواطنة الحقيقيّة قاوم في مقالاته الصحافية مخاطر مجلة المرافعات الشرعية، فاضحا مواطن الفساد فيها انتصارا لمجلة الأحوال الشخصيّة، التي عارضوها باسم الدين مستهدفين مواطنة المرأة وفقا لأطروحته. صفوة القول، يعدّ أحمد الدرعي رمزا تنويريا على غرار كبار الفلاسفة والمفكرين التنويريين، لكن الاختلاف كامن في مستوى لعبة التسويق، لأنّ الشعوب التقدميّة تصدّر رموزها، وتضخّم أحيانا الصورة اعتزازا بروّادها، وبلادنا «تنتج الروّاد والمبدعين في كلّ فن ومجال، ولكنهم في الغالب مغمورون بين قومهم، لا يحتفى بهم في حياتهم، ولا ينالون من الإكرام حتى بعد موتهم» كما ورد في تقديم الآثار، الذي اختزل فيه المفكّر عبد المجيد الشرفي منزلة الدرعي الفكريّة والإبداعيّة، آملا أن تجد هذه الثروة المعرفيّة مكانة لدى المهتمين بالحقل الفكري والإبداعي إنصافا لمشروع تحديثي ذي نزعة تقدميّة.