لبنان الفردوس المحترق والعنقاء المؤجلة

لطالما رأى اللبنانيون وطنهم بوصفه المكان الأكثر جمالاً على سطح الكوكب، والنسخة الأرضية المصغرة للفردوس. صحيح أن النرجسية الجمعية ليست مرضاً يخص اللبنانيين وحدهم، بل نجد تمثلاتها وأعراضها لدى سائر شعوب الأرض، ولكنها تصل عند اللبنانيين إلى ذروتها الأخيرة، وتجد تعبيراتها الرمزية في الشعر والغناء والفولكلور وسائر الفنون. فسعيد عقل، الذي أسهم بشعره وكتاباته في تضخيم صورة الوطن اللبناني وتحويله إلى أسطورة، يتساءل في إحدى قصائده: «هل جنة الله إلا حيثما هنئتْ \ عيناك؟ كل اتساعٍ بعدُ بهتانُ». ولا يتوانى أمير الشعراء أحمد شوقي، من جهته، عن الإسهام في تظهير هذه الصورة الفردوسية للبلد الذي طالما شغف بجماله، فقال فيه: «لبنان والخلد اختراع الله، لم \ يزدن بأحسن منهما ملكوتُهُ». ولكن، وقبل ذلك بكثير، كانت صورة لبنان بجباله الشاهقة المكسوة بالثلوج، وتضاريسه المكسوة بالأشجار، ترِد مرة إثر أخرى في أسفار العهد القديم، حيث يهتف أشعياء: «لتفرح البرية والقفر، ولتبتهج البادية ويزهر النرجس، فقد أوتيت مجد لبنان». وفي «نشيد الأنشاد»، يهتف النبي سليمان بعروسه الفاتنة: «هلمي معي من لبنان، أيتها العروس»، فيما تعلن الجوقة المهللة له: «الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من أرز لبنان».
إلا أن ما ميز الجغرافيا اللبنانية عن سواها هو كونها شديدة الغنى والتنوع، بحيث استطاعت هذه الرقعة الصغيرة من الأرض أن توزع نفسها بين نعومة الرمال وصلابة الصخور، بين المياه المفتوحة على الخارج والجبال المكسوة بالأشجار، التي تقف متعامدة مع الشواطئ. كما أن الطبيعة الخلابة والموقع الفريد، اللذين طالما عدهما اللبنانيون نوعاً من النعمة الإلهية الخالصة، بديا في الوقت ذاته أشبه باللعنة الدائمة التي جرّت على بلدهم المصائب والويلات، واستدرجت إلى غزوه كثيراً من القوى الكبرى التي عمدت إلى احتلاله لعقود، أو قرون، قبل أن تعود من حيث جاءت، تاركة على صخرة نهر الكلب ما يدل على مرورها. وقد عبر ننّوس اليوناني، في القرن الرابع الميلادي، عن مأزق الجغرافيا اللبنانية في قصيدة طويلة له، بعنوان «ملحمة بيروت الميمونة»، حيث الصراع على المدينة يتسبب بحرب لا هوادة فيها بين ديونيسيوس (إله الكرمة والبر) وبوسيدون (إله البحر)، حين زعم كليهما أن بيروت هي امتداد لنفوذه، وجزء من ممتلكاته. وقبل أن تنتهي الحرب لصالح بوسيدون، تدور حروب فريدة من نوعها بين الأمواج والكروم، كما بين زبد البحر وأزهار الزيتون، كدلالة رمزية بالغة على انتصار الخارج على الداخل في تلك المواجهة الضارية التي يتدخل فيها كبير الآلهة للمصالحة بين الطرفين المتقاتلين.
لقد بدا كل شيء في هذا البلد الصغير مفتوحاً على نقيضه. فمقابل الطبيعة الخلابة التي يمتلكها، ثمة صدوع في جوف تربته جعلته عبر التاريخ عرضة لكثير من الزلازل التي تسببت غير مرة بتهديم عاصمته، وسائر مدنه وقراه. والطوائف والإثنيات التي احتمى بعضها بجباله المنيعة، هرباً من الملاحقة والاضطهاد، وجيء ببعضها الآخر لحماية سواحله وثغوره من الغزو الأجنبي، تجعل منه في زمن السلم والوئام الأهلي مختبراً نادراً للحداثة والتنوير وتفاعل الثقافات، ولكنها ما تلبث حين تختل الموازين الدقيقة بين الطوائف أن تدخل بين آونة وأخرى في حروب ماحقة تطحن في طريقها كل مظهر للتطور، وتعيده عقوداً إلى الوراء. واللافت أن نظام الملل والتوازنات الطائفية الهجينة هذا أثبت مع الزمن، ورغم هشاشته الظاهرة، أنه أكثر مناعة حتى من أنظمة الاستبداد والفكر الشمولي. والأدل على ذلك أن عشرات النزاعات الأهلية، ومئات الآلاف من الضحايا، لم تفلح في تصديعه وهزيمته، بل كان كلما حطت الحروب أوزارها يلتفّ على عذابات أهله وأحلام بنيه، ويجدد طبقته السياسية ورموز فساده، وينقل سموم الطائفية القاتلة من خانة التفاهمات والأعراف الشفهية إلى خانة النصوص المدونة التي تتضمنها الدساتير.
ربما كانت الصدفة وحدها هي التي زامنت، بفارق أيام معدودة، بين الحريق الكارثي لما تبقى على قيد الإخضرار من غابات لبنان وأشجاره، والحراك الأهلي غير المسبوق لمئات الآلاف من المواطنين الذين تنادوا من المناطق والطوائف والأعمار كافة للاحتجاج على نظام التحاصص الطائفي الفاسد، وللمطالبة بحقهم في العيش بكرامة، بعد أن بات الإذلال والانحناء أمام الزعيم الطائفي والمذهبي هو السبيل الوحيد لتجنب الفقر، أو للحصول على الوظيفة والمنصب المنشودين.
وإذا كانت الأمطار الغزيرة التي هطلت فجأة على لبنان قد تكفلت بإطفاء حرائقه الكارثية، بعد تقاعس السلطات المعنية عن القيام بأبسط واجباتها، فإن الجموع المحتشدة في ساحات مدنه وقراه لن تجد ضالتها في تغيير حكومي من هنا، أو تقديم كبش رمزي هزيل من هناك، إذ ليس ثمة أمل يُرجى بالخروج من النفق، ما دامت العصبيات الطائفية المدججة بغرائزها وعقد خوفها هي التي تصنع تاريخ لبنان منذ قرنين من الزمن، وهي التي تقطع الطريق على أي فرصة حقيقية للتغيير. ولم يقصر التاريخ اللبناني في تقديم شواهده الدالة على ذلك، بدءاً من التداعي الدراماتيكي لمفاعيل «عامية أنطلياس» عام 1840، مروراً بالانقضاض السريع على انتفاضة طانيوس شاهين عام 1859، عبر تحويلها من ثورة على الإقطاع إلى صراع طائفي دموي، وليس انتهاء بالحرب الأهلية الأخيرة عام 1975. والخوف كل الخوف أن يتمكن الوحش الطائفي، القابض على ناصية الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان، من أن يختطف مرة أخرى وهج هذه اللحظات النادرة في تاريخنا الحديث. وحيث تبدو دولة العدالة المنشودة بعيدة عن التحقق، لا بد للعنقاء اللبنانية المؤجلة من أن تنهض من رمادها، ولو بعد حين، كما هو حال طائر الرعد الذي يجيء، وفق الهنود الحمر، في اللحظة التي تصل فيها الآلام والتضحيات إلى ذروتها الأخيرة. وهو ما عبّر عنه سميح القاسم بقوله: «ويكون أن يأتي\ بعد انتحار الريح في صوتي \ شيءٌ روائعه بلا حدِّ \ شيءٌ يسمّى في الأغاني: طائر الرعدِ \ لا بدّ أن يأتي \ فلقد بلغناها \ بلغنا قمة الموتِ».