محاولة عزل ترمب بعد تجربة كلينتون... التاريخ مرشّح لأن يكرّر نفسه

لم يكن مفاجئاً أن يطلق الديمقراطيون إجراءات لعزل الرئيس الجمهوري دونالد ترمب على أساس ما يقولون إنه مخالفة جسيمة للدستور في قضية طلبه من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التحقيق في ملفّ هانتر بايدن ووالده جو، المرشّح الديمقراطي الأبرز للانتخابات الرئاسية 2020. والواقع أن الديمقراطيين كانوا يتحيّنون الفرصة للانقضاض على الرئيس، بعدما وصلت إلى طريق مسدود قضية تورّطه في تدّخل روسي مزعوم لمصلحته في انتخابات 2016.
يحصر الدستور الأميركي أسباب عزل الرئيس – أو إقالته - بـ «الخيانة أو الرشوة أو غيرهما من الجرائم والجنح الكبرى»، علماً أن الدستور لا يعرّف بدقة «الجرائم والجنح الكبرى». وبعد مجلس النواب، حيث الأكثرية للحزب الديمقراطي، يتولى مجلس الشيوخ بقية الإجراءات، علماً أن العزل يحتاج إلى أصوات ثلثي الحاضرين.
وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الشيوخ يضم 100 عضو، هم حالياً 53 جمهورياً و45 ديمقراطياً ومستقلان.
وفي أحدث تطورات المسألة، كشف التحقيق تفاصيل جديدة في ما يخص تعامل ترمب مع أوكرانيا، وكذلك تعامل محاميه الشخصي رودي جولياني. وتؤكد إفادات شهود، معظمهم من المسؤولين في وزارة الخارجية ومؤسسات حكومية فدرالية أخرى، إلى حد كبير رواية «المُخبر» الذي فجّر الفضيحة. وفي هذا السياق، قالت المستشارة السابقة في البيت الأبيض فيونا هيل، إن مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون انزعج للغاية من نشاطات جولياني الخفيّة في أوكرانيا ووصفها بأنها «قنبلة يدوية ستفجر الجميع».
واللافت أن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لم تدعُ المجلس حتى الآن إلى إجراء تصويت رسمي على العزل رغم الدعوات الجمهورية الصريحة. وقالت إن الكونغرس سيواصل التحقيق لأن «هذه ليست لعبة بالنسبة إلينا. هو أمر خطير للغاية. نحن نسير في طريق يأخذنا إلى الحقيقة».
وأشارت السياسية الديمقراطية البالغة من العمر 79 عاماً، إلى أن التحقيق في مسألة أوكرانيا جارة روسيا، يقود إلى العلاقة التي تربط بين ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في أي حال، ستسلك الأمور الإجرائية طريقها الطويل، خصوصاً أن عدداً من الساسة الجمهوريين يرفض التعاون مع لجنة التحقيق التي يرأسها النائب الديمقراطي عن كاليفورنيا آدم شيف.

ترمب - كلينتون
هنا يرى عدد من المحللين والخبراء في القانون الدستوري الأميركي أن الديمقراطيين ارتكبوا خطأً فادحاً بإطلاق إجراءات مساءلة ترمب. وهو الخطأ نفسه الذي ارتكبه الجمهوريون عند محاولة عزل بيل كلينتون عام 1998، فكانت محاولة عقيمة أضرت بالجمهوريين، وعززت سلطة كلينتون، وسببت أضراراً للمؤسسات الدستورية أيضاً.
ومن أصحاب هذا الرأي أستاذ القانون في جامعة شيكاغو إريك بوزنر الذي يقول إن «العامل المشترك بين القضيتين هو أنه يتضح منذ البداية أن مجلس الشيوخ لن يدين الرئيس المتّهم».
ومعلوم أن الرئيس الديمقراطي كلينتون تورّط في علاقة مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، وكذب على الرأي العام والكونغرس، ومع ذلك لم يكن الشيوخ الديمقراطيون الـ 45 مستعدّين للتخلي عنه وتأمين غالبية الثلثين المطلوبة لعزله، خصوصاً أن الشاب الوسيم والمتحدّث اللبق كان لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة.
لا شك في أن الجمهوريين الذين قادوا حملة العزل وقتذاك أدركوا أن قلة من الديمقراطيين في مجلس الشيوخ سيصوتون ضد كلينتون (في الواقع لم يصوت أي منهم ضد الرئيس). لكنهم كانوا يأملون في إحراج الديمقراطيين وإلحاق الضرر بكلينتون، معتقدين أنهم سيحصلون على مقاعد أكثر في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 من خلال بدء إجراءات المساءلة قبل ذلك.
وبعد الفشل الجمهوري، اتفق الجمهوريون في نهاية المطاف مع الديمقراطيين على أن مسؤولية الكارثة تقع على عاتق كينيث ستار، المحامي المستقل الذي قادته تحقيقاته في صفقات كلينتون العقارية قبل سنوات إلى قضية مونيكا لوينسكي. وبالتالي ضاعت تحقيقات ستار هباءً، وخرج كلينتون من المعمعة سليماً معافى.
واليوم سيتكرر الأمر نفسه، بمعنى أن ساسة جمهوريين عدة قد يكونون غير راضين عن تصرفات ترمب، لكن لا مؤشر أو دليل على أن أياً منهم سيصوّت ضده، سواء في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ترمب لا يتمتع بشعبية كلينتون، إلا أنه يملك في صفوف حزبه قاعدة صلبة وفية بدليل أنها لم تتأثر بفضائح سابقة.
ولا ننسى هنا أن الرئيس (الراحل) ريتشارد نيكسون ارتكب أفظع ما يمكن أن يرتكبه رئيس أميركي، إذ أمر بالتنصت على خصومه في الحزب الديمقراطي، غير أن المساءلة التي تلت فضيحة «ووترغيت» لم تؤد إلى عزل الرئيس بل إلى استقالته في أغسطس (آب) 1974.
وإذا كان بعض الديمقراطيين متحمساً للمساءلة من باب أن ترمب سيضعف حتى في حال فشل محاولة العزل، فإن آخرين يرون أن هذه المحاولة ستقود إلى واحدة من نتيجتين لا ثالثة لهما: النجاح أو الفشل. والاحتمال الثاني – وهو حتماً الأرجح – سيضرّ بالديمقراطيين ويبدّد مبالغ كبيرة من المال العام.

ترمب والثمن السياسي
في مقابل من يورد الوقائع والحقائق التاريخية، ثمة من يقول إن أشخاصاً متعقلين في الولايات المتحدة بدأوا يتحدثون عن إمكان إدانة ترمب في مجلس الشيوخ وعزله. ولئن كان هذا الاحتمال لا يزال ضعيفاً، فإن مجرد وجوده يعني أن موقف ترمب يضعف، علماً أن استطلاعات الرأي تتغيّر في غير مصلحته.
ويلفت هؤلاء إلى أن الرئيس يتصرف بشكل عشوائي وانفعالي، وصارت لغته متهورة أكثر. ويرون أنه يرتكب أخطاء كبيرة في السياسة الخارجية أثارت غضب أعضاء بارزين في حزبه، خصوصاً موقفه من العملية التركية في شمال شرق سوريا، وقراره سحب القوات الأميركية من هناك. ويشيرون إلى أنه قلق إلى درجة أنه هدد بمقاضاة نانسي بيلوسي وآدم شيف لمحاولتهما عزله. وأتبع ذلك بالطلب من محامي البيت الأبيض توجيه رسالة إلى بيلوسي تؤكد أن محاولة عزله غير دستورية، مؤكداً أن الإدارة لن تتعاون معها على الإطلاق.
ويقرّ أصحاب هذا الرأي بأنه إذا صوّت مجلس النواب لمصلحة عزل ترمب، تظل الحقيقة أن عدد الأصوات المطلوبة في مجلس الشيوخ لإدانته وإزاحته من منصبه أقل بكثير من غالبية الثلثين. ومع ذلك هم يؤيدون مواصلة العملية القانونية، لأن استعداد الكونغرس بمجلسيه لمواصلة تحمل سلوك ترمب أصبح الآن برأيهم موضع شك. ويعتقد هؤلاء أن ذلك سيجعل الرئيس بالحدّ الأدنى في موقف أضعف، وبالحد الأقصى سيخوض انتخابات 2020 منطلقاً من موقف سلبي.
بعد الفرضية والفرضية المقابلة، تميل الكفّة إلى جهة الأولى، وبالتالي يبدو أن التاريخ سيكرر نفسه. فالواقع السياسي الذي هزم الجمهوريين عام 1998 سوف يعمل بالطريقة نفسها ضد الديمقراطيين عام 2019.