«بريكست»: تعليق على مقال

نادراً ما يجد الإنسان نفسه مدفوعاً دفعاً للتعليق على مقال، ولكن هناك بعض المقالات تستحق التعليق، لأن بها فكرة متميزة أو جهداً مبذولاً يستحق التعليق، وهذا ما استوقفني في مقال ديفيد برجتون؛ المؤرخ البريطاني والأستاذ في كلية كنجز، عن أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، المنشور في صحيفة الـ«غارديان» في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
ملخص المقال هو أن أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) أزمة ضرورية لا بد منها؛ فهي تكشف ضعف الدولة البريطانية الحديثة والعلاقة بين رأس المال والسياسة وحقيقة الاقتصاد البريطاني المتراجع... حقائق ما كان لبريطانيا أن تواجهها لولا أزمة «بريكست». وبوعي بتاريخ الدولة البريطانية الحديثة، يشرح ديفيد برجتون كيف تحول حزب المحافظين، الذي يمثل مصالح الرأسمالية البريطانية في مواجهة حزب العمال الذي يمثل مصالح الطبقة العاملة، من حزب رأس المال الكبير إلى حزب المتطرفين من أهل الرأسمالية الصغيرة والتي تدفع باتجاه الخروج من الاتحاد. فكرة الاتحاد هي فكرة الرأسمالية الكبيرة في المقام الأول؛ فكرة بريطانيا الإمبراطورية التي تلعب دوراً كبيراً في حركة رأس المال العالمية، لا بريطانيا المنعزلة.
يذكرنا ديفيد بريجتون في هذا المقال أيضاً بأن أزمة بريطانيا بعد «بريكست» ستكون طويلة كفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في أحسن الأحوال، وأن «بريكست» أو فكرة الخروج فكرة حمقاء تفتقر إلى خطة ما بعد الخروج. فالحقيقة هي أنه لا يوجد داعم لفكرة الخروج لا من قطاع الصناعة البريطاني، ولا من قطاع الزراعة، ولا من قطاع الخدمات، ومع ذلك يقدم حزب المحافظين بجناحه المتطرف على تلك الفكرة الحمقاء التي لا تحظى بتأييد أي تكتل له علاقة بعافية الاقتصاد البريطاني.
في السابق كان هناك تكتل رأسمال يتدخل عندما يقدم أي رئيس وزارة على فكرة حمقاء مثل «بريكست» ليمنع حدوثها، ولكننا الآن أمام حزب محافظين خالٍ من الرأسمالية الكبيرة ويميل إلى الرؤية الضيقة للرأسمالية الصغيرة.
القصة الكبيرة كما يراها ديفيد برجتون ليست علاقة رأس المال الكبير بحزب المحافظين، ولكن غياب تلك العلاقة أو انفراط عقدها، وغياب رجال الصناعة من نوعية نيفيل تشمبرلين وستانلي بولدوين عن المشهد الحالي الذي يتحكم فيه من أقل مالاً وأقل حكمة وفهماً.
في السابق كان حزب المحافظين يمثل الرأسمالية الوطنية التي تحافظ على الاقتصاد البريطاني، واليوم غير ذلك، كما أن رأس المال اليوم في بريطانيا ليس رأسمال وطنياً، بل عابر للحدود من جماعات استثمار الهيدجفندرز أو صناديق التحوط، إلى آخر هؤلاء المغامرين الذين لا تربطهم علاقة عضوية بالاقتصاد البريطاني.
مقال ديفيد برجتون جدير بأكثر من قراءة، لأنه يعكس رؤية عميقة لتحولات الدولة والسياسة والاقتصاد التي أفضت إلى حالة «بريكست» التي تمثل حماقة في الاقتصاد والسياسة معاً، وفوق كل هذا يمثل مقال برجتون نموذجاً لكيفية كتابة مقال الرأي: مقال يجب أن يعكس إلماماً عميقاً بالموضوع المطروح للنقاش، وفهماً للسياق، وأسلوب تناول، هذا ما يمثله مقال ديفيد بيرجتون، وهذا ما ينقص كثيراً من المقالات التي أقرأها باللغة العربية في السنوات العشر الأخيرة.