الولاية في القضاء

الولاية والكفاءة مسألتان تثيران كثيرا من النقاش والخلافات في الفقه والقضاء بين المسلمين من حيث شروطهما وأركانهما وميزاتهما. تفجر هذا الموضوع في إيران في أواخر القرن الماضي. حدث أن أصر حسين علي منتظري، أحد كبار المراجع الشيعية في إيران، على أن علي خامنئي لا يجوز له أن يدعي ولاية الفقيه؛ لأن هذا المرجع يجب أن يكون أعلم وأتقى العلماء، في حين أن السيد خامنئي لم يبلغ المستوى المطلوب لنعتبره من ضمن العلماء حتى نتحرى عن مستوى علمه وتقواه، كما قال هازئاً ساخراً.
أدى موقفه هذا إلى منازعات ومصادمات حادة في إيران حينئذ. ولكنها لم تصبح واقعة من الوقائع السياسية المعروفة. بيد أنها تذكرنا بكثير من المنازعات المالية والعائلية التي يضج بها تاريخنا. وكان من ذلك حكاية مشابهة عن الراحل محمد مهدي كبة، زعيم حزب الاستقلال في العراق خلال الأربعينات والخمسينات. سمعتها من المحامي الشهير داود السعدي - رحمه الله - عندما كان الأمين العام لحزب الاستقلال وأحد كبار الزعماء القوميين في عهده، وأرويها كما سمعتها منه في ذلك الحين.
قال إن المتولي على أوقاف أسرة آل كبة توفي بأجله المحتوم. فادعى محمد مهدي كبة ولايته على تلك الأوقاف التي شملت عقارات ومسقفات ثمينة في بغداد وضواحيها تدر دخلاً عالياً. وكان يتصور أنه بحكم منزلته في السياسة الحزبية العراقية وزعامته لفريق القوميين والوحدويين في البلاد سيكسب الولاية من قاضي بغداد دون أي نزاع أو شك في أهليته. بيد أنه كان مخطئاً في تصوره هذا، كما كان مخطئاً في معظم مواقفه السياسية الوطنية.
تقدم للمحكمة الشرعية رجل آخر من أسرة آل كبة أيضاً وادعى هو كذلك الولاية الشرعية، وقال إنه أحق بها من زعيم حزب الاستقلال. إذن فقد قام نزاع في الموضوع. فأوقف القاضي قراره وحدد يوماً لسماع حجة كلا الطرفين.
تحديد الأهلية والولاية في الإسلام موضوع دقيق جداً. حل الموعد المقرر لحسم النزاع فأفاد الأستاذ داود السعدي ببينته وأطلع المحكمة على تفاصيل أحقية موكله السيد محمد مهدي كبة. وبعد أن انتهى من مطالعاته، وقف الخصم فقال: كلا يا حضرة القاضي. أنا أحق بالولاية، فأولاً من حيث القربى لصاحب الوقف فأنا أقرب من محمد مهدي كبة، فأنا ابن أخيه في حين أن محمد مهدي ابن عمه، وابن الأخ أقرب من ابن العم. وأما من حيث العمر فأنا أكبر من محمد مهدي باثني عشر عاماً، وأما من حيث التقوى فأنا أتقى من محمد مهدي لأنني حاج وزرت قبر نبينا عليه الصلاة والسلام في حين أن محمد مهدي ليس حاجاً ولا زار الديار المقدسة. وهنا تنحنح الرجل ثم استأنف كلامه فقال: وأما من حيث العلم فأنا ومحمد مهدي كلانا جاهل ولا يعرف شيئا!
حدثني الأستاذ داود السعدي فقال بنبرة أسى: بكل ما أملكه من ثقافة وخبرة في القضاء عجزت عن دحر حجة ذلك الرجل البسيط بإثبات أن موكلي محمد مهدي كبة، زعيم حزب الاستقلال، كان عالماً بشيء يميزه عن خصمه. فنطق القاضي بإسناد الولاية للخصم!