حين يأتي الشعر ثانياً

مارست الأحزاب السياسية منذ أواسط القرن العشرين الطريقة نفسها التي مارستها القبيلة

حين يأتي الشعر ثانياً
TT

حين يأتي الشعر ثانياً

حين يأتي الشعر ثانياً

لم يُحسم الصراع إلى هذه اللحظة بين من ينظرون إلى الشعر على أنَّه أداة للتغيير في شتَّى ضروب المجتمع، ومن يرونه حالة خاصة يجب أنْ تبتعد عن كل غرضٍ أو هدفٍ، سواءٌ أكان اجتماعياً أو دينياً أو سياسياً، أو أي هدفٍ آخر، وهذا الأمر - بل هذه النظرة - مرتبط بولادة الشعر، فقد سجَّل الاحتفال الذي تقيمه القبيلة سابقاً لولادة شاعر فيها أول بصمات التجيير للشاعر، لأنَّها ستركن له يوماً ما، وتنام مطمئنة تحت لسانه السليط.
إنَّ هذه الرؤية ترى أنَّ الشعر سلاحٌ يذبُّ عن القبيلة، وأنَّ الشاعر ناطقٌ إعلامي يدافع عنها. وضمن هذا التوجه، ظهر شعراء كثيرون، ارتبطت شعريتهم بشتم الآخر، والدفاع عن القبيلة، وما عنترة العبسي وعمرو بن كلثوم إلَّا نموذجان صارخان لهذا التوجه، حيث يقول عمرو:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا
فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا
ومهما بلغت القصيدة من بناءٍ محكمٍ واشتغالٍ فنيٍ، فإنَّها ستبقى في الدرجة الثانية، لأنَّها منقادة للموضوع مستسلمة لتفاصيله، بل إنَّ قدحة الكتابة جاءت بسبب الموضوع، وإنَّ الشاعر جعل وظيفة محددة للقصيدة، إمَّا أنْ تكون سياسية في التغلب على بقية القبائل، أو اجتماعية، أو وعظية، أو هجائية لشتم الآخر، المهم أنْ تكون للقصيدة وظيفة يُنتفعُ منها. وبهذه الطريقة، يتحول الشعر إلى وسيلة لغاياتٍ غيرِ شعرية. وقد حدد «أدونيس» في مختاراته (ديوان الشعر العربي)، في مقدمة الجزء الأول منها، وهي مقدمة مهمة للغاية، خمسة اتجاهات استطاع أنْ يرصدها، ما بين الجاهلية وأواسط القرن الثامن الميلادي؛ أحد هذه الاتجاهات هو الاتجاه الآيديولوجي الذي يستبطن تبشيراً بقيم وأفكار معينة، والشاعر ضمن هذه الخانة يكون ملتزماً بقضايا أهله وناسه وقبيلته، والاهتمام الذي يحظى به الشاعر ليس بوصفه منتجاً للجمال، إنَّما بوصفه أداة يمكن استعمالها في يوم من الأيام، ويُنتفعُ منها، وهذا ما حدث في بداية الدعوة الإسلامية، حين ظهرت طبقة من الشعراء يمثلون الجانب الشعري المدافع عن قضايا الدين الجديد ومفاهيمه، فكان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وآخرون كثر، ومنهم من كتب الأراجيز لحظة المعارك، وهي تُشبه - إلى حد ما - الأناشيد التي تُبثُّ على الشاشات لحظة معاركنا الحديثة، لشحذ الهمم.
لقد بقي هذا التوجه في كتابة القصيدة قوياً مستمراً لا يقبل المناقشة، لأنَّه كان أما مرتبطاً بالسلطة، مادحاً أو هاجياً، أو مرتبطاً بعامة الناس وحقوقهم، أو مرتبطاً بالدين ومناسباته الكثيرة، أو بالطقوس وتفرعاتها، وكل هذه الموضوعات تشكل الخط الأول، أو الهدف الرئيسي من كتابة الشعر، وتأتي فيما بعد القصيدة وهمومها الذاتية.
لقد ازدهر هذا التوجه في كتابة القصيدة في العصر الحديث، وبالتحديد في بداية عصر النهضة ومقاومة الاحتلال، وفي فترة ما يُسمَّى بالحكومات الوطنية التي أُنشئت تحت الانتدابات الأجنبية. وانتعش هذا التوجه أكثر فأكثر بعد تأسيس الأحزاب السياسية، فظهر الشعر السياسي والأخلاقي والاجتماعي، وظهر الشعر الذي يتابع حركة الناس ومظاهراتهم ومطالبهم، من البارودي لحافظ إبراهيم، ومن الرصافي إلى الزهاوي، إلى عشرات غيرهم، ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ومعظم ذلك الشعر يقع في خانة النصوص السياسية والاجتماعية والتاريخية والوعظية، حيث تتقدم الموضوعات، ويتراجع الشعر إلى المرتبة الأخيرة.
ومثلما استثمرت القبيلة الشاعر سابقاً، في أنْ يكون لسانها، راحت تمارس الأحزاب السياسية، ومنذ أواسط القرن العشرين، الطريقة نفسها التي مارستها القبيلة، فالحزب أياً كان ينتعش ويفرح ويهلل ويطبل حين ينتمي له شاعر من الشعراء، وواضح أنَّ هذا الفرح نابعٌ من الفكرة المتخيلة للشاعر، في أنْ يكون لسان حال الجماعة، أي جماعة، وأنْ يحوَّل مبادئ الحزب إلى نصوصٍ شعرية، وأن يكون لسان ذلك الحزب، ذاباً ومدافعاً عنه وعن توجهاته ومبادئه، وكثيراً ما كانت الأحزاب تتنافس على الشعراء، فمثلاً الحزب الشيوعي العراقي كان يشيع فكرة أن «الجواهري» أحد كوادره، فيما ينفي الجواهري نفسه أي انتماء له لأي حزب، ولكن القصائد التي كتبها الجواهري، والتي تحمل نَفَسَاً قريباً من هموم الناس ومطالبهم، وهي نصوص كثيرة، جعلت من هذه الفكرة قريبة من التصديق والواقع، فيما بقي الحزب الشيوعي إلى هذه اللحظة غيرَ راضٍ عن «السيَّاب» لأنَّه انتمى لهم مدة من الزمن، ومن ثم انقلب عليهم إلى جهة أخرى، وكتب مجموعة مقالاتٍ تهجَّم فيها على الحزب الشيوعي، طُبعت فيما بعد كتاباً باسم «كنتُ شيوعياً». وأذكر أنَّي استضفت في عام 2010 في برنامج ثقافي الشاعر «الفريد سمعان»، وهو شيوعي قديم، كان يحمل السيَّاب على ظهره أيَّام المظاهرات في نهاية الأربعينات، وسألته عن السياب وكتابه «كنتُ شيوعياً»؛ وقتها، تهجَّم الفريد على السيَّاب، نافياً صحة حديثه في هذا الكتاب. وقد مضى على تلك المقالات أكثر من خمسين عاماً، مما يعني أنَّ منطلق «الفريد سمعان» هو منطلق آيديولوجي، لأنَّ السيَّاب اختلف مع رفاق الأمس، لذلك لم يحظ السياب - على عظمة شعره - بالاهتمام النقدي أو الإعلامي الذي حظي به منافسه «عبد الوهاب البيَّاتي» الذي بسبب الماكينة الحزبية استطاع أنْ يُصبح شاعراً عالمياً، وأن يُتداول اسمُه في معظم الدول الشيوعية سابقاً، وأنْ يُترجم شعرُه إلى معظم اللغات. ولكي لا نظلم تجربة البياتي، فإنَّه استطاع أنْ يتحول من شاعرٍ يكتب عن الواقع السياسي والاجتماعي إلى شاعرٍ ينظر إلى تجربته الخاصة بروح المتأمل العارف، ولكن فيما بعد طبعاً.
إنَّ هذا الأمر ينطبق على عشرات الشعراء، ومن مختلف البلدان العربية، وبالتحديد البلدان التي ظهرت فيها الأحزاب، وانتعشت لديها الحركات التحررية، وأصابتها عدوى الانقلابات على أنظمتها التقليدية التي تأسست الدول الحديثة على أيديها، وكأن التجربة الحزبية تُجري عملية خصاءٍ للشاعر، تحوّله من غزالٍ بري إلى حصان مروَّضٍ، وضِعَ على عينيه لجامٌ خاصٌ، لا ينظر للعالم إلّا من خلاله، وهذا الأمر ينطبق على جميع الأحزاب والمنظمات والحركات الثورية والدينية، التي تُغري الشعراء بالانتماء لها ليكونوا أدواتٍ بيدها، وليس بعيداً عن هذا الأمر حزب البعث الذي يعدُّ من أكثر الأحزاب استقطاباً للشعراء، بوصفه حكم العراق ما يقارب أربعين عاماً، استطاع خلالها أنْ يُخصي عدداً كبيراً من الشعراء، بأنْ يكونوا جزءاً من منظومته، بل إنَّ عدداً من الشعراء الشيوعيين تحوَّلوا من لجام الشيوعية إلى لجام البعث، فخسروا بذلك أشياء كثيرة. وحين أتحدث عن الخسارة، فأنا أتحدث عن الخسارة الشعرية الكبيرة، حيث أطلق صدام حسين على جموع المثقفين (من شعراء ومغنين ورسامين و...و...و...) لقب الفيلق السادس أو السابع، ذلك أن صدام حسين عدهم قوة رديفة للجيش، واستثمر كتاباتهم للمعركة. وبهذا، فإنَّ الشعر تراجع في كل الحالات، ولم يستطع أولئك الشعراء أنْ يُنتجوا شعراً منفلتاً من كل شيء، متحرراً من القيود، هائماً في فضاءات البرية. لهذا، فالالتزام مهما كان نوعُه هو سبب رئيسي لتخثر القصائد، وانسداد شرايينها بالقضايا وبالتعبئة. وهذا ينطبق أيضاً على «محمود درويش» الذي كتب عن القضية الفلسطينية، وحفر اسمه لدى العامة والخاصة، ولكنّه انتقل - فيما بعد - ليكتب عن الشعر نفسه، بوصفه ضوءاً قابلاً لحوار الروح وهمومها الخاصة، وللتأمل والانشداد حول فانوسه، وقد حاول مراراً ألّا يقرأ نصوصه القديمة التي كتبها أيَّام التعبئة والدفاع عن القدس، وتبيان مظلومية الفلسطينيين، حتى أن أحد الأصدقاء ذكر مرة أن «درويش» في إحدى أماسيه الشعرية المتأخرة، أي في نهاية التسعينات، صاح عليه أحد الجمهور أنْ يقرأ «سجِّل أنا عربي»، فتغاضى «درويش» عن طلبه، فرجع يلحُّ عليه، فصرخ درويش بوجهه وقال له «سجِّل أنت». هذا يعني أنَّ النظرة العميقة للشعر وصلت إلى أعلى مناسيبها لدى «درويش»، فلم يعد يهتم بالقشور الشعرية التي يرددها الناس، وهذا الأمر يحيلنا إلى المئات، بل الآلاف من الشعراء الموجودين في عالمنا العربي، إلا أنه «ما أكثر الشعراء، ولكن ما أقلّ الشعر»، لأنّ الشعر هو العملة النادرة جداً جداً في هذا الفضاء الكتابي، فجلُّ ما يُكتب هو منطلقٌ لأغراض ووظائف محددة، سواءٌ كانت هجاءً سياسياً، أو مدحاً سياسياً، أو وعظاً أخلاقياً أو اجتماعياً، أو مطالبات وعرض لمشكلات الناس، أو حتى الكتابة للظفر بامرأة حسناء؛ كل تلك الأنواع من الكتابة الشعرية هي خارج حلبة الشعر، لأنَّ الشعر يأتي في الأخير، بينما الأغراض والأسباب هي التي تتقدم. وللأسف، فإنَّ معظم النماذج التي تُدرَّس، أو التي أصبحت أمثلة على ألسنة الناس، هي تلك النماذج التي يأتي الشعر تابعاً فيها للموضوع، فما زالت الناس تحفظ «سجل أنا عربي» لدرويش، بينما تغفل الجدارية العظيمة، وما زالت الناس تحفظ أبياتاً كثيرة للمتنبي بوصفها حكماً ومواعظ، مثل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
بينما يغفلون عن لذة شعر أبي نؤاس:
مساحب من جر الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان جني ويابس
وما زال الناس يحفظون «نامي جياع الشعب نامي» للجواهري، ولكنهم يغفلون عن:
يا نديمي، وهمتُ بالشجرِ وسواي استبد بالثمرِ



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟