بريطانيا المرتبكة... بين مخاوف الفقراء من الغلاء وخشية الأثرياء من «العمال»

مخاطر الفوضى تفوق «بريكست بلا اتفاق»

تبدو بريطانيا مرتبكة بخصوص «بريكست»... حتى على مستوى حسابات المخاوف الاقتصادية (رويترز)
تبدو بريطانيا مرتبكة بخصوص «بريكست»... حتى على مستوى حسابات المخاوف الاقتصادية (رويترز)
TT

بريطانيا المرتبكة... بين مخاوف الفقراء من الغلاء وخشية الأثرياء من «العمال»

تبدو بريطانيا مرتبكة بخصوص «بريكست»... حتى على مستوى حسابات المخاوف الاقتصادية (رويترز)
تبدو بريطانيا مرتبكة بخصوص «بريكست»... حتى على مستوى حسابات المخاوف الاقتصادية (رويترز)

بينما تكشف تقارير اقتصادية عن تزايد المخاوف في بريطانيا بين السكان من تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) الذي يقترب سريعا - إلا إذا نجح المشرعون في معركة كبرى تستهدف إرجاء انفصال دون اتفاق؛ فإن التقارير أظهرت تباينا واسعا بين نظرة السكان من الفئات المتوسطة ومحدودة الدخل، وبين نظرة الأثرياء لتلك المخاوف.
وبينما يخشى السكان العاديون من تفشي موجة غلاء كبرى نتيجة الانفصال دون اتفاق، كنتيجة طبيعية لزيادة الرسوم والعوائق الجمركية، فإن الأثرياء لا يأبهون على ما يبدو باتفاق أو لا اتفاق، لكنهم يخشون أكثر سقوط الحكومة الحالية، وتولي حزب العمل، ما يعني تبديل السياسات الاقتصادية، والتي ستؤثر عليهم بأكثر من أي اتفاق أو عدمه مع أوروبا.
وكشف استطلاع للرأي أجراه البنك المركزي البريطاني أن نصف البريطانيين يرون أن خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي «بريكست» يزيد من توقعاتهم بشأن ارتفاع الأسعار في البلاد.
وذكر بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) أمس أن توقعات التضخم خلال العام المقبل وصلت في أغسطس (آب) الماضي إلى 3.3 في المائة، وهو أعلى معدل يتم تسجيله منذ عام 2013، وكانت توقعات التضخم بلغت في مايو (أيار) الماضي 3.1 في المائة.
وأظهر الاستطلاع الذي أوردته وكالة «بلومبرغ» أن المستهلكين في بريطانيا أكثر تفاؤلا بشأن معدلات التضخم على المدى الأطول؛ حيث أعرب المشاركون في الاستطلاع عن توقعاتهم أن تصل نسبة التضخم في غضون خمس سنوات إلى 3.1 في المائة.
ومن الممكن أن يؤدي تراجع قيمة الجنيه الإسترليني، فضلا عن الحواجز التجارية الجديدة، إلى زيادة الأسعار فوق النسبة التي يستهدفها البنك المركزي البريطاني وتبلغ 2 في المائة، بمجرد خروج البلاد من الكتلة الأوروبية. غير أن 10 في المائة ممن شملهم الاستطلاع ذكروا أن الخروج من الاتحاد الأوروبي قلل من توقعاتهم بشأن زيادة الأسعار.
- الفوضى أخطر من أي قرار
وبينما ينقسم المجتمع البريطاني بين مؤيد ومعارض للانفصال، بل ومؤيد ومعارض لانفصال باتفاق أو دون اتفاق، فإن الفوضى القائمة تعد أحد أكبر المخاطر التي تهدد الاقتصاد البريطاني.
وحذر رئيس المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية، مارسيل فراتسشر، من عواقب استمرار إرجاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقال فراتسشر في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية في بروكسل: «ما أراه من مخاطر حاليا هو الارتباك... نهاية بفزع أفضل من فزع بلا نهاية»، موضحا أن خروج بريطانيا الآن من دون اتفاق سيكون أفضل من تعليق يمتد لعام أو عامين.
ويسعى مجلس العموم البريطاني إلى إرجاء خروج بريطانيا مجددا من الاتحاد الأوروبي، والذي من المقرر له في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وإذا طلبت بريطانيا ذلك من الاتحاد، فقد تنجح في الحصول على موافقة.
وفي المقابل، ذكر فراتسشر أن الارتباك الحالي تسبب بالفعل في ضعف صادرات ألمانيا إلى بريطانيا وآيرلندا، وقال: «عندما يسود الوضوح وتعلم الشركات الأوضاع التي يجب أن تتأقلم معها، سيمكن حينها التعامل مع الأمر».
وأوضح فراتسشر أن الشركات الألمانية بصدد إعادة توجيه نشاطها سواء فيما يتعلق بالمنتجات الأولية أو أسواق التصريف الجديدة، مشيرا إلى أنه حتى إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد من دون اتفاق، فإن الجمارك في التبادل التجاري مع بريطانيا ستكون ضئيلة وسيمكن تجنب فترات الانتظار الطويلة على الحدود، وقال: «لا يتعين أن يصل الأمر إلى فوضى».
- مشاغل أخرى
لكن يبدو أن الخروج دون اتفاق لا يمثل مشكلة كبرى لآخرين، على الأقل بالنسبة لأغنى أغنياء بريطانيا، وإنما مشكلتهم هي وصول زعيم حزب العمال اليساري جيرمي كوربين إلى الحكم، في أي انتخابات قريبة، في ظل حالة الغموض السياسي التي تحيط ببريطانيا بسبب الخلاف حول الخروج من الاتحاد الأوروبي.
فعلى مدى أكثر من عام، يستعد بعض أغنى أغنياء بريطانيا لانفصال صعب عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما يوضح أنهم يستطيعون تحويل الخروج الفوضوي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي لصالحهم. ولكن احتمالات فوز حزب العمال بزعامة كوربين في الانتخابات العامة المقبلة أصبحت أكثر ما يثير قلقهم.
ونقلت بلومبرغ عن كريس كالين، رئيس مجلس إدارة مجموعة «هينلي آند بارتنرز غروب» للاستشارات الضريبية والموجودة في مدينة زيوريخ السويسرية، قوله: «من الواضح تماما أنه ستكون هناك موجة خروج كبيرة للأفراد والأسر الغنية من بريطانيا إذا وصل حزب العمال إلى السلطة... هذا هو الهاجس الأكبر بالنسبة للأثرياء وليس الخروج من الاتحاد الأوروبي أو حتى الخروج من دون اتفاق... فهذا لا يعني أي اختلاف بالنسبة لعملائنا».
وفي تقرير لها عن مخاوف الأثرياء من التغيير في السلطة في بريطانيا، رصدت بلومبرغ مجموعة من النقاط الأساسية المثيرة لقلق الأثرياء البريطانيين، على رأسها تغير السياسات الضريبية، وقوانين الشفافية، وتهديدات التراجع عن الخصخصة، إضافة إلى حرية الحركة عبر الحدود
- الضرائب
في بيانه السياسي عام 2017، أكد حزب العمال ضرورة زيادة ضرائب الدخل المستحقة على من يزيد دخله على 80 ألف جنيه إسترليني، وكذلك إمكانية فرض ضريبة على الثروة. ودعا تقرير أعدته لجنة شكلها الحزب في وقت سابق من العام الحالي إلى زيادة الضرائب على الوحدات السكنية الخالية، وزيادتها على الشقق الفارهة، وإصلاح ضريبة المواريث وإضافة رسم جديد على العقارات المملوكة للأجانب، وهو ما يمكن أن يضر بعشرات الأثرياء.
ويقول مارك ديفيز، المستشار الضريبي للأثرياء والموجود مقر عمله في لندن، إنه يجب التفكير في ضريبة الثروة، في ظل وجود عدد كبير من الأشخاص يعيشون على أجور وظائفهم ويعانون من ارتفاع نفقات الحياة حول لندن، مضيفا أن «هناك تناقضا هائلا بين جنوب شرقي لندن وباقي مناطقها... يتم النظر إلى كل شيء من منظور أمة واحدة، لكن الحقيقة أن هناك تباينات كبيرة بين مختلف مناطق بريطانيا».
- الشفافية
ستواجه خصوصية البيانات المالية للمواطنين أوقاتا عصيبة في ظل حكومة عمالية يقودها كوربين. ففي تقرير عن الشفافية الضريبية منشور قبل عامين، دعا حزب العمال إلى نشر الإقرارات الضريبية الخاصة بالأفراد الذين يزيد دخلهم السنوي على مليون جنيه إسترليني. كما أشار التقرير إلى إمكانية إنشاء سجل عام لملاك صناديق الاستثمار وكل المساهمين في الشركات، في حين يقتصر هذا الأمر حاليا على أصحاب الحصص الكبيرة فقط.
في الوقت نفسه، فإن البيانات التي تسربت من شركات الخدمات القانونية الدولية مثل تسريب بيانات شركة «موساك فونسيكا» المعروفة باسم فضيحة «وثائق بنما» التي تفجرت قبل ثلاث سنوات، يمكن أن تعزز رغبة الحكومة العمالية القادمة في تحقيق المزيد من الشفافية في مجال المال والأعمال.
وقد شكك وزير خزانة حكومة الظل العمالية جون ماكدونيل، في مدى التقدم الذي أحرزته حكومة المحافظين في التحقيقات بشأن الأفراد الذين وردت أسماؤهم في فضيحة وثائق بنما.
- التأميم
كما تعهد حزب العمال بالتراجع عن خصخصة الصناعات الرئيسية التي نفذتها رئيسة وزراء بريطانيا المحافظة الراحلة مارغريت ثاتشر التي تولت حكم بريطانيا خلال الفترة من 1979 إلى 1990، ونفذت أكبر عملية خصخصة في تاريخ بريطانيا رغم الاعتراضات العنيفة من جانب النقابات العمالية التي كانت قوية للغاية في ذلك الوقت.
وقد تعهد كوربين بإعادة ملكية الدولة لقطاعات الطاقة والمياه والسكك الحديدية إلى جانب البريد الملكي البريطاني. ومثل هذه الخطوة يمكن أن تكبد المستثمرين الذين يملكون أسهم هذه الشركات خسائر كبيرة، لأن الحكومة ستعوضهم عن هذه الأسهم وفقا للقيمة الدفترية للشركات وليس وفقا للقيمة السوقية لها.
ورغم أن حق امتياز شركة السكك الحديدية في بريطانيا «فيرجن ترينس» المملوكة للمليارديرين ريتشارد برانسون وبريان وستر، ينتهي خلال الشهور الستة المقبلة، فإن الشركة أعلنت في وقت سابق من العام الحالي اعتزامها إطلاق خدمة قطارات جديدة بين ليفربول ولندن اعتبارا من عام 2021.
كما تعتزم حكومة العمال المنتظرة مطالبة الشركات التي تضم أكثر من 250 عاملا بوضع 10 في المائة من أسهمها في «صناديق شمول الملكية» يسيطر عليها العمال. كما يستهدف حزب العمال مستثمري القطاع العقاري من خلال تبني سياسة تطالبهم ببيع مشروعاتهم السكنية إلى السكان، بأسعار قد تقل عن أسعار السوق.
- الحركة عبر الحدود
أيضا أثار ماكدونيل المخاوف منذ عامين عندما قال إنه مستعد لمواجهة احتمالات التغير في سعر الجنيه الإسترليني إذا وصل إلى السلطة، وهو ما يفتح الباب أمام فرض قيود على حركة الأموال إذا تم انتخاب حزب العمال. ومنذ ذلك الوقت يحاول وزير خزانة الظل التأكيد على أن الحزب لن يقدم على مثل هذه الإجراءات، ولكن الأثرياء يستعدون بشكل متزايد لمغادرة بريطانيا، بحسب جون إيلدر الشريك المؤسس لشركة إدارة الثروات «فاميلي أوفيس أدفايزورس».
ويقول إيلدر إنه يعرف عددا من الأسر الغنية البريطانية فتحت حسابات مصرفية جديدة في دول ترحب بالأثرياء من خلال توفير ضرائب منخفضة وإجراءات سريعة لمنحها الجنسية، مثل البرتغال وموناكو ومالطا. كما أن البعض بدأ يستعد لاستخدام الطائرات الخاصة في تحركاتهم إذا تركوا بريطانيا وانتقلوا للحياة في الخارج.
وكانت قضية الخروج الجماعي المحتمل للأثرياء البريطانيين من البلاد قد ظهرت على السطح في العام الماضي عندما قرر الملياردير جيم راتكليف مؤسس شركة «أينوس» العالمية للكيماويات وأغنى شخص في بريطانيا الانتقال للحياة في موناكو إلى جانب اثنين آخرين من مديري «أينوس».
في الوقت نفسه لم تعد الرغبة في جذب الأثرياء البريطانيين قاصرة على موناكو أو سويسرا؛ حيث أقرت إيطاليا منذ عامين نظاما للضرائب، يضمن ضريبة سنوية ثابتة لا تزيد على 100 ألف يورو بهدف جذب الأثرياء الأجانب بشكل عام. ومن أشهر الشخصيات التي سعت للاستفادة من النظام الضريبي الجديد في إيطاليا نجم كرة القدم البرتغالي الشهير كريستيانو رونالدو الذي انتقل إلى اللعب في فريق يوفنتوس الإيطالي بمدينة تورينو قادما من ريال مدريد الإسباني في العام الماضي.
وقال ديفيز: «الكثيرون من عملائنا يأتون من أنظمة ضريبية ودول كانت فيها أنظمة حكم يسارية متطرفة مثل البرازيل... إنهم يقولون لنا إنهم يعرفون ما سيحدث: فرض ضريبة على الأثرياء وبعد ذلك أخذ أموالهم. هذا الأمر يذكرني دائما بواحدة من أشهر أقوال مارغريت ثاتشر الملقبة بالمرأة الحديدية، وهي: المشكلة مع الاشتراكية هي أنك فيما بعد ستحتاج إلى أموال الآخرين».



قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
TT

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

رئيس أميركي جديد... حرب تجارية مهددة... استمرار تعثر اقتصاد الصين... اضطرابات سياسية في مراكز القوة بأوروبا... توترات جيوسياسية في الشرق الأوسط... يبدو أن عام 2025 سيكون عاماً آخر استثنائياً. فكيف سيشكل كل ذلك الاقتصاد العالمي في عام 2025؟

في عام 2024، اتجه الاقتصاد العالمي نحو التحسن في ظل تباطؤ معدلات التضخم، رغم استمرار المخاطر.

لكن العام المقبل يقف عند منعطف محوري. فمن المرجح أن يرفع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الرسوم الجمركية، واضعاً حواجز حمائية حول أكبر اقتصاد في العالم، بينما سيستمر قادة الصين في التعامل مع عواقب العيوب الهيكلية داخل نموذج النمو في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم. أما منطقة اليورو، فستظل محاصرة في فترة من النمو المنخفض للغاية.

ترمب ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يتحدثان قبل اجتماع حلف شمال الأطلسي (أ.ب)

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يُتوقع أن يظل الاقتصاد العالمي ككل مرناً نسبياً في 2025. ويفترض صندوق النقد الدولي بتقرير نشره في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي قبل حسم نتائج الانتخابات الأميركية، أن يظل النمو ثابتاً عند 3.2 في المائة بالعام المقبل، وهو نفسه الذي توقعه لعام 2024. بينما التوقعات بتباطؤ النمو في الولايات المتحدة إلى 2.2 في المائة في عام 2025، من 2.8 في المائة في عام 2024، مع تباطؤ سوق العمل. في حين توقعت جامعة ميشيغان في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأميركا إلى 1.9 في المائة في عام 2025.

وفي منطقة اليورو، من المتوقع أن يبلغ النمو 1.2 في المائة في عام 2025، وهو أضعف قليلاً من توقعات الصندوق السابقة. ويشار هنا إلى أن الأحداث السياسية في كل من فرنسا وألمانيا سيكون لها وقعها على نمو منطقة اليورو ككل. فالسياسات الاقتصادية الفرنسية والألمانية تعوقها حالة كبيرة من عدم اليقين السياسي بعد استقالة رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه ضحية الموازنة، وانهيار الائتلاف الحكومي في ألمانيا للسبب نفسه.

أما الصين، فيتوقع الصندوق أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 4.6 في المائة في عام 2025 مع مخاوف تحديات استمرار ضعف سوق العقارات، وانخفاض ثقة المستهلكين والمستثمرين، وذلك في وقت تكافح فيه بكين للتوفيق بين إعادة توجيه استراتيجيتها للنمو والضغوط قصيرة الأجل لإجراءات التحفيز غير المكتملة. لكن وكالة «فيتش» أقدمت منذ أيام على خفض توقعاتها السابقة بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني من 4.5 في المائة إلى 4.3 في المائة.

موظف يعمل بشركة تصنيع قطع غيار سيارات في تشينغتشو (أ.ف.ب)

السياسة النقدية في 2024

لقد كان من الطبيعي أن يمثل تباطؤ التضخم المسجل في عام 2024، أرضية لبدء مسار خفض أسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية الكبرى. وهو ما حصل فعلاً. فالاحتياطي الفيدرالي خفّض أسعار الفائدة الفيدرالية مرتين وبمقدار 75 نقطة أساس حتى نوفمبر 2024 - و25 نقطة أساس أخرى متوقعة باجتماع في 17 و18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي - لتصل إلى 4.50 - 4.75 في المائة، رغم نمو الاقتصاد بواقع 3 في المائة.

رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يتحدث إلى رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد ويتوسطهما محافظ بنك اليابان كاز أودا في مؤتمر «جاكسون هول» (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فأجرى خفضاً للفائدة 4 مرات في 2024 وبواقع 25 نقطة أساس كل مرة إلى 3.00 في المائة بالنسبة لسعر الفائدة على الودائع.

بنك إنجلترا من جهته، خفّض أسعار الفائدة مرتين بمقدار 25 نقطة أساس (حتى اجتماعه في نوفمبر).

باول ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي ورئيس بنك كندا المركزي تيف ماكليم (رويترز)

وبالنسبة لبنك الشعب (المصرف المركزي الصيني)، فلقد كان التيسير مع مجموعة أدواته الموسعة حافلاً هذا العام، حيث تم الإعلان عن إصلاح إطار عمل جديد للسياسة النقدية في شهر يونيو (حزيران)، وتخفيضات بمقدار 30 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي لمدة 7 أيام، وتخفيضات بمقدار 100 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي، وبرامج جديدة لدعم أسواق الأسهم والعقارات.

إلا أن المفاجأة كانت في تغيير زعماء الصين موقفهم بشأن السياسة النقدية إلى «ميسرة بشكل معتدل» من «حكيمة» للمرة الأولى منذ 14 عاماً، ما يعني أن القيادة الصينية تأخذ المشاكل الاقتصادية على محمل الجد. وكانت الصين تبنت موقفاً «متراخياً بشكل معتدل» آخر مرة في أواخر عام 2008، بعد الأزمة المالية العالمية وأنهته في أواخر عام 2010.

ولكن ماذا عن عام 2025؟

سوف تستمر المصارف المركزية في خفض أسعار الفائدة على مدى العام المقبل، ولكن في أغلب الاقتصادات الكبرى سوف تمضي هذه العملية بحذر.

بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، يبدو أن التوقف عن الخفض في اجتماع يناير (كانون الثاني) أمر محتمل، حيث إنه سيكون لديه بحلول اجتماع مارس (آذار)، فهم أكثر وضوحاً لخطط الرئيس دونالد ترمب بشأن التعريفات والضرائب والإنفاق والهجرة وغيرها. ومن المؤكد أن احتمالات خفض الضرائب المحلية لدعم النمو التي ستدفع بالطبع التضخم إلى الارتفاع، ستؤيد مساراً أبطأ وأكثر تدريجية لخفض أسعار الفائدة العام المقبل. وهناك توقعات بحصول خفض بمقدار 25 نقطة أساس لكل ربع في عام 2025.

متداول في سوق نيويورك للأوراق المالية يستمع إلى مؤتمر باول الصحافي (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فيبدو أنه مصمم الآن على المضي قدماً في إعادة أسعار الفائدة إلى المستوى المحايد بأسرع ما يمكن مع ضعف النمو الشديد وتباطؤ ظروف سوق العمل، وسط توقعات بأن يخفض سعر الفائدة الرئيسي إلى نحو 1.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025. ومن بين العواقب المترتبة على ذلك أن اليورو من المرجح أن يضعف أكثر، وأن يصل إلى التعادل مقابل الدولار الأميركي العام المقبل.

وعلى النقيض من المصرف المركزي الأوروبي، يتخذ بنك إنجلترا تخفيضات أسعار الفائدة بشكل تدريجي للغاية. ومن المتوقع أن تعمل الموازنة الأخيرة وكل الإنفاق الحكومي الإضافي الذي جاء معها، على تعزيز النمو في عام 2025. وهناك توقعات بأن يقفل العام المقبل عند سعر فائدة بواقع 3.75 في المائة، قبل أن ينخفض ​​إلى أدنى مستوى دوري عند 3.50 في المائة في أوائل عام 2026.

أما بنك الشعب، فسوف يبني العام المقبل على الأسس التي وضعها هذا العام، حيث تشير التوقعات إلى تخفيضات تتراوح بين 20 و30 نقطة أساس في أسعار الفائدة، مع مزيد من التخفيضات إذا جاءت الرسوم الجمركية الأميركية في وقت مبكر أو أعلى مما هو متوقع حالياً، وفق مذكرة للمصرف الأوروبي «آي إن جي». ومن المتوقع على نطاق واسع خفض آخر لمعدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في الأشهر المقبلة، حتى إنه يمكن حصول تخفيضات تراكمية بمقدار 100 نقطة أساس في معدل الفائدة قبل نهاية عام 2025.

حرب تجارية على الأبواب؟

وبين هذا وذاك، هناك ترقب كبير للتعريفات الجمركية التي تعهد ترمب بفرضها، والتي يرجح على نطاق واسع أن تلعب مرة أخرى دوراً رئيساً في أجندته السياسية، وهو ما ستكون له انعكاساته بالتأكيد على الاقتصاد العالمي.

سفن حاويات راسية في ميناء أوكلاند (أ.ف.ب)

فترمب هدّد في البداية مثلاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المائة على جميع الواردات الصينية، ورسوم جمركية تتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة على الواردات من جميع البلدان الأخرى. ثم توعّد المكسيك وكندا بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المائة على جميع الواردات منهما، إذا لم تحلّا مشكلة المخدرات والمهاجرين على الحدود مع الولايات المتحدة، و10 في المائة رسوماً جمركية على الواردات من الصين (تضاف إلى الرسوم الحالية) بمجرد تنصيبه في 20 يناير. ولاحقاً، توعد مجموعة «بريكس» بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 100 في المائة، إذا أقدمت على إنشاء عملة جديدة من شأنها إضعاف الدولار.

ويبدو أن ترمب جاد هذه المرة في فرض التعريفات الجمركية التي يصفها بأنها أجمل كلمة في القاموس، بدليل ترشيحه الرئيس التنفيذي لشركة «كانتور فيتزجيرالد» في وول ستريت، هوارد لوتنيك، لتولي منصب وزير التجارة، والذي قال عنه إنه «سيتولى ملف التجارة والتعريفات».

وينص قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية على قدرة الرئيس على إصدار إجراءات اقتصادية طارئة للتعامل مع «أي تهديد غير عادي واستثنائي، يكون مصدره بالكامل أو جزئياً خارج الولايات المتحدة، للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة». وهو ما يطلق يد ترمب في إقرار رسوم جمركية جديدة.

من هنا، قد تشكل الحرب التجارية أكبر خطر يهدد النمو العالمي في عام 2025. ورسم المحللون أوجه تشابه مع ثلاثينات القرن العشرين، عندما أدى فرض التعريفات الجمركية الأميركية إلى رد فعل انتقامي من قبل حكومات أخرى، وأدى إلى انهيار التجارة العالمية الذي أدى بدوره إلى تعميق الكساد الأعظم.

وفي أواخر أكتوبر، تناول صندوق النقد الدولي في تقرير له، التأثيرات المترتبة على النمو والتضخم في حرب تجارية محتملة عام 2025. فوضع التقرير سيناريو حرب تجارية مع افتراض فرض تعريفات جمركية أميركية بنسبة 10 في المائة على جميع الواردات، تقابلها إجراءات انتقامية واسعة النطاق من جانب أوروبا والصين تعادل 10 في المائة تعريفات جمركية على الصادرات الأميركية، وعلى جميع التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي، على أن يتم تنفيذها بحلول منتصف عام 2025.

في هذا السيناريو، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة -0.1 في المائة في عام 2025، مما يخفض توقعاته الأساسية من 3.2 في المائة إلى 3.1 في المائة.

مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من جهته يحذر من آفاق غير مؤكدة تواجه التجارة العالمية عام 2025، بسبب تهديد الحروب التجارية. ويعدّ أن «آفاق التجارة في عام 2025 مشوبة بتحولات محتملة في السياسة الأميركية، بما في ذلك التعريفات الجمركية الأوسع نطاقاً التي قد تعطل سلاسل القيمة العالمية وتؤثر على الشركاء التجاريين الرئيسين».

وفي استطلاع أجرته «رويترز» مؤخراً مع 50 اقتصادياً، قدّر هؤلاء أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في الصين ​​بمقدار من 0.5 إلى 1.0 نقطة مئوية في عام 2025، حال تم فرض التعريفات الجمركية.

الدين العالمي إلى مستويات قياسية

ولا تقتصر التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي على ما سبق تعداده، فالعالم يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق مع تصاعد الديون العالمية إلى 323 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي، وهو رقم يصعب تخيله أو استيعابه، والمتوقع ارتفاعه أكثر في 2025 إذا نفذ ترمب تعهداته.

لافتة إلكترونية في محطة انتظار الحافلات حول حجم الدين الوطني الحالي للولايات المتحدة (رويترز)

فالتقلبات المتوقعة لسياسات ترمب دفعت بعض الدول إلى إصدار ديون قبل توليه منصبه، عندما قد تصبح الأسواق أقل قابلية للتنبؤ.

وحذر معهد التمويل الدولي من أن التوترات التجارية المزدادة وانقطاعات سلسلة التوريد تهدد النمو الاقتصادي العالمي، مما يزيد من احتمالات حدوث دورات ازدهار وكساد صغيرة في أسواق الديون السيادية مع عودة الضغوط التضخمية وتشديد المالية العامة. وسوف تفاقم زيادة تكلفة الفائدة نتيجة لذلك الضغوط المالية وتجعل إدارة الديون صعبة بشكل مزداد.

وأخيراً لا شك أن التحولات الجيوسياسية تلعب دوراً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي عام 2025. وهي تفترض مراقبة خاصة ودقيقة ومعمقة لتداعيات التنافس بين الولايات المتحدة والصين، التي قد تزداد وتيرتها حدة لتكون عواقبها الاقتصادية محسوسة على مدى سنوات، وليس أشهراً، بحيث يتردد صداها طوال العام المقبل وما بعده.