البحر... من مملكة للسمو إلى «مكب للنفايات»

عن البحر وأفقه اللامترامي، وعوالمه الواضحة الغامضة، ومده وجزره، في جسد الكون والبشر والأشياء، يدور كتاب «فلسفة البحر» للكاتب الألماني جونتر شولتس، الذي صدرت أخيراً الترجمة العربية له عن دار «تنمية» للنشر والتوزيع بالقاهرة، ونقلها إلى العربية المترجم المصري شريف الصيفي، فيما صدرت الطبعة الأولى منه عن دار «مار» للنشر، وهي دار متخصصة في كل ما يتعلق بالبحر من مطبوعات وأفلام تسجيلية عن البحر بوصفه عالماً حيوياً وحيزاً للثقافة والاقتصاد.
انتقد المترجم في كلمته في بداية الكتاب، الذي يقع في 296 صفحة، حصر المؤلف، وهو أستاذ فلسفة متقاعد، لموضوع «البحر» داخل حدود الفلسفة الغربية فقط، لكن من وجهة نظره فإن للكتاب جاذبيته التي لا يمكن تفاديها، وأضاف المترجم في هوامش الكتاب ما تيسر من الترجمات العربية للمصادر الأوروبية التي اقتبس منها المؤلف نصوصه الفلسفية في سياق النص.
يستعرض المؤلف فكرته عبر سبعة أجزاء، يطلق عليها «محطات الزيارة السبع»، التي بدأها بتحديد خصوصية ومنطق الإنسان في النظر للبحر: «كل ما يُفكر فيه الإنسان، يقوله ويكتبه، يحدث من منظور ساكن اليابسة، فلو كان حيواناً بحرياً بخياشيم وزعانف سيرى العالم بشكل مختلف»، ويتابع في موضع آخر: «إذا أراد الإنسان معرفة ماهيته، يجب عليه قبل كل شيء معرفة: ما لا يكونه»، والتسليم بأن الإنسان يمارس المعرفة بطرق متباينة جداً، فالشاعر يفكر ويتكلم عن البحر بشكل مختلف عن عالم الكيمياء.
خرج أرسطو في القرن الرابع (ق.م) ليعلن أن طاليس المالطي هو الفيلسوف الأول الذي رأى أن العالم كله يقوم على مبدأ واحد، وهو الماء، فحسب شهادة أرسطو، فالماء بالنسبة لطاليس السبب الرئيسي في قوله إن كامل اليابسة تطفو على الماء مثل قطعة خشب أو سفينة عائمة، فضلاً عن كونه المنبع، أي الأصل الذي منه تدفق كل شيء، والذي إليه يعود ليغرق من جديد، واستمد فكرته أيضاً من فرضية أن بذور كل شيء رطبة، وأن الماء أصل طبيعة الأشياء الرطبة.
ويُبرز المؤلف على مدار الكتاب رأي طاليس بأن الماء هو أصل كل شيء، باعتباره الفيلسوف الأول في التاريخ، وأحد الحكماء السبعة لدى اليونان. ويستعين شولتس بمقطع من قصيدة غوته «الدوام في التغيير» التي تقول:
«مع كل زخة مطر
يتبدل واديك الجميل
ولا تسبح في النهر ذاته مرتين»
ويرى في هذا المقطع، تبنٍ لأفكار الفيلسوف الشهير هيراقليطس، التي كان من أشهرها أن «الإنسان لا يسبح في النهر ذاته مرتين»، ما جعل هيراقليطس هو أول مُفكر راديكالي لعملية التحول الدائم، يقول المؤلف: «وجد هيراقليطس أن أصل الأرض والسماء كان في الماء، في البحر. وتمدنا فكرته المركزية حول التحول بالتفسير التالي: كل شيء يتحول إلى ضده، البرودة تصبح سخونة، والسخونة برودة، الرطوبة تصبح جفافاً، والجفاف رطوبة».
يبحر الكتاب في التعاطي المثيولوجي لفكرة البحر، وأبرزها غرق «أطلانتيس»، كما «أسطورة الطوفان» لدى أفلاطون، تقول الأسطورة القديمة إن الإله زيوس عاقب البشر على سلوكهم الشائن من خلال كارثة الفيضان، ولم ينج منه غير ديوكاليون وزوجته فقط، لأن برومثيوس كان قد حذّر ابنه ديوكاليون في الوقت المناسب، فاستطاع بناء سفينة إنقاذ، يقول المؤلف: «يستخدم أفلاطون هذه القصة ليوضح لنا التطور الثقافي، فقد كان على الجنس البشري بعد الطوفان أن يبدأ من جديد مع كل الاختراعات والمؤسسات الاجتماعية»، ويعتبر أن عقوبة كارثة الطوفان تفتح لأفلاطون فرصة جديدة بخصوص مجتمع أفضل من الناحية الأخلاقية، فالقرب من البحر يشكل خطراً على مجتمع أفلاطون، يستند في ذلك إلى كتابات أفلاطون الفلسفية المتأخرة عن الدولة بعنوان «Nomoi» (النواميس)، التي تتضمن حواراً عن خطة لتأسيس دولة على جزيرة كريت، وفي هذا السياق يقول كراتيس، أحد المشاركين في المحاورة، إنه من الأفضل لو كانت المدينة الجديدة بعيدة قدر الإمكان عن البحر.
فوفقاً لأفلاطون، الساحل مكان محفوف بالمخاطر الأخلاقية بالنسبة إلى أي مدينة، لأن البحر من خلال مزاياه في تسهيل التجارة والحركة المالية، إلا أنه حسب أفلاطون يُقوّض الأخلاق بجعل المواطنين رجال أعمال أنانيين غير مكترثين بالنظر إلى العدالة، واعتبر ذلك انتقاداً لأثينا في عصره، وهو رأي خالفه فيه تلميذه أرسطو، الذي رأى أن الموقع الساحلي للمدن يوفر لها ميزتين، الأولى تلبية احتياجات المدينة عبر التجارة مع البلاد النائية، أما الميزة الثانية، والمناقضة لرأي أفلاطون، هي أن القرب من البحر يُكسب المدينة مزيداً من الأمان، خصوصاً في حالة امتلاكها لقوات بحرية، فتستطيع محاربة العدو في البحر، كما في البر، فتزيد إذن فرص الانتصار.
ووضع أرسطو كذلك بعض العيوب من وجهة نظره للقرب من البحر، منها اكتساب الناس لشرائع أجنبية غريبة عن عادات المدينة وأخلاقها، علاوة على النمو السكاني السريع بسبب التجارة، يقول الكتاب: «من الواضح أن مخاوف أفلاطون قد أخذها أرسطو على محمل الجد».
يسلط الكتاب الضوء على أدبيات الجزر الخيالية (اليوتوبيا) بدءاً من «أطلانتيس» لدى أفلاطون مروراً بـ«أطلانتس الجديدة» لدى فرانسيس بيكون، يقول المؤلف: «ساد توقع أن ثمة جزراً خيالية في المساحات الشاسعة من البحار، كل شيء عليها مختلف وأفضل مما في واقع الوطن، ولأن لا يوتوبيا بلا أخلاق فكانت فكرة أفلاطون أن (البحر ليس إلهياً مطلقاً، بل قبيح تماماً، لأنه يهدد الأخلاق)، ورغم أن أدباء الجزيرة الطوباويين استلهموا من أفلاطون فلسفة المجتمع الأفضل، لكن لم يتغير موقفهم من البحر، فبالنسبة لهم وفر لهم البحر فرصة لعزل مجتمعاتهم اليوتوبية التي تتمتع بالكمال عن بقية العالم غير الكامل». ويستمر علم التاريخ في تتبع أثر البحر على سلوك البشر، يقول المؤلف «من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر حلم المرء بالكثير من الجزر اليوتيوبية، ومع الزمن وضعت هذه المجتمعات اليوتيوبية في المستقبل، وكفلسفة التاريخ، اندمجت الفلسفة في صراع حول علاقات ملكية البحار الذي أصبح فيما بعد مسألة قانون البحار، لكن الأسس الفلسفية الأخلاقية ظلت حية».
ويشير الكتاب إلى تطور حثيث في مسار حوار الأخلاق واليوتوبيا، وأنه بداية من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين، أصبح البحر نقطة مرجعية مهمة في سياق الحوار الجمالي للسمو، ويقول «لم يعد تلاميذ طاليس يعلنون أن الماء مبدأ العالم، أما أرسطو فلم يشارك أفلاطون في رفضه الأخلاقي للبحر. منذ بدايات القرن العشرين وصيد الأسماك يُمارس آلياً، وكذلك التوسع في بناء منصات الحفر للبحث عن البترول والموارد الطبيعة الأخرى، كما يُستخدم رمل الشواطئ لبناء المنازل، ويُستخدم البحر مكباً للنفايات، ما يستدعي وعياً ثقافياً وعقلانياً خاصاً بأخلاقيات البيئة لا يمكن تحقيقه أو تثبيته من خلال البحوث العلمية المهيمنة اليوم».
وينوه المؤلف بفلسفة التاريخ لدى هردر، الذي ذكر أن البحر الأبيض المتوسط لعب دوراً أكثر أهمية بالنسبة إلى هيجل في تاريخ العالم القديم كله، فهو مركز تاريخ العالم، يُوحد لا يفرق، فحوله تقع المراكز الثقافية ذات الأثر الأكبر في العالم، مثل أثينا، روما، الإسكندرية، قرطاج، فعند هيجل يدعم البحر الحرية، وكان مفتاحه لفهم أوروبا، حيث قال: «لا يمكن لمدينة أوروبية أن تنمو إلا من خلال علاقة بالبحر، فالبحر يفصل الأرض لكنه يربط بين البشر».
ولكن، حسب الكتاب، فقد غيرت العملية الحضارية من طبيعة البحر، وضرب مثالاً لذلك بالبحر الأبيض المتوسط، الذي أصبح يشار إليه أحياناً بوصفه «طبقاً من حساء القمامة»، فالبحر المتوسط الذي كان رابط القارات، وطريق الهروب الرئيسي من أفريقيا إلى أوروبا، بينما كان الأوروبيون يتدفقون على العالم بأسره بدءاً بالقرن الخامس عشر، يحدث الآن تدفق للسكان من الاتجاه المعاكس، يقول «ربما كان الأمر الأكثر خطورة هو تغير البحر نفسه، فلم يعد البحر المتوسط أساساً ثابتاً للتاريخ البشري المتحرك في المجال الحيوي للمتوسط».
إن البحر رمز الوحدة الإنسانية، وتاريخها، وهي حسب جونتر شولتس، أفكار نبيلة وقيمة لم تتحقق ولم تصمد، إذ تقوّضت في الوقت الراهن من خلال سلوك الدول، حيث تصل موارد البحار كملكية للبعض، في حين أن تلوث البحر يطال الجميع.