فسحة خارج السياسة

نعرف أن السياسة وتشنجاتها ودهاليزها قد تهرم الإنسان، وتأكل عمره، وتفني بريقه. لكن ماذا عن الانفكاك من كل هذا، وممارسة شيء آخر قد يطيل العمر وفقاً لباحثين رصينين؟
التقدم في العمر والاقتراب المحتم من الدخول إلى مرحلة الكهولة بقدمين مترددتين على أمل تسلق درجاتها والوصول برضا وامتنان إلى المرفأ الأخير وإلقاء المرساة، لا يعني كما يتوقع البعض خوفاً من مواجهة الغياب النهائي عن التمتع بشروق الشمس كل صباح بقدر ما يعني الرغبة في تطويل المشوار الحياتي، ما أمكن، وتأجيل ما هو محتم، بعض الوقت. وبالطبع، هذه الرغبة في تطويل فترة الإقامة الدنيوية قليلاً لا تشمل أتباع الشاعر والفيلسوف المتشائم أبو العلاء المعري، الذي لم يُخفِ استهجانه من الراغبين في زيادة فترة العيش فوق الأرض.
وللوصول إلى تحقيق هذه الغاية يجد المرء نفسه معنياً بالبحث عن الوسائل التي تعنيه وتعينه على محاولة عبور صراط الكهولة بسلام، بمتابعة ما يصدر ويُنشر من تقارير طبية معنية بهذه القضايا وقراءتها باهتمام والحرص على اتباع ما تنصح به من تعليمات وإرشادات. آخر هذه التقارير نشرته صحيفة «الغارديان» هذا الأسبوع، تحت عنوان: «غسيل الأواني قد يساعدك على العيش طويلاً في الشيخوخة». وباختصار غير مخلّ، يؤكد التقرير حقيقة أن الاستلقاء والجلوس معظم الوقت، يعجّل بالنهاية، وأن القيام بأنشطة بسيطة مثل غسل الأواني وتنظيف البيت أو القيام بأعمال في حديقتك، إنْ توفرت، وغيرها من الأعمال البسيطة تساعد على إطالة العمر.
التقرير المنشور في الجورنال الطبي البريطاني، وصادر حديثاً، عن المدرسة النرويجية لعلوم الرياضة، يعدُّ الأخير في سياق البحوث العلمية في هذا الخصوص، وما صدر عنه من نتائج وخلاصات أكدت ووطّدت ما سبقه من دراسات وبحوث وتجارب. وتضمن البحث التجريبي مراجعة ثماني دراسات أُجريت على نحو 36 ألف شخص من الجنسين، بمتوسط عمر 63 عاماً، حيث جرت متابعتهم في حيواتهم لمدة تتراوح بين 5 و6 سنوات، توفي خلالها 2149 مشتركاً في التجربة. وفي كل دراسة تم تقسيم المشتركين إلى أربع مجموعات متساوية العدد، ومتابعة المجموع العام للساعات التي قُضيت في أداء أعمال وأنشطة، وتقييم مخاطر الوفاة خلالها، آخذين في الاعتبار عوامل مثل العمر والجنس والحالة الصحية للشخص وحالته الاجتماعية والاقتصادية. وتبين لفريق الباحثين أن القيام بالأنشطة والأعمال يقلل من مخاطر الوفاة، الأمر الذي حدا بالفريق للدعوة إلى: «أجلس لوقت أقل، وتحرك أكثر، وأكثر أغلب الوقت». الدراسة تعرضت لدراسة حالات مشتركين من الولايات المتحدة وأوروبا فقط، وهذا يجعل نتائجها وخلاصاتها محدودة.
وأنا، في هذه السطور، لن أخوض في جدوى الدراسة من عدمها، لكني، عقب قراءة التقرير مباشرةً، وجدتني ملاحَقاً بالعديد من أسئلة ذات صلة وعلاقة بنا، نحن العرب، أو على وجه الدقة، نحن المتقدمين في العمر من الرجال العرب، خصوصاً سكان المدن منهم الذين بعد إحالتهم إلى التقاعد سرعان ما يذوون، وتهرب من عروقهم دماء الحياة، ويتحولون في أغلب الحالات إلى كومات من اللحم والعظم البشري تتكدس على الكنبات في البيوت تتابع بملل وسأم برامج مضجرة في التلفاز، أو يجلسون على كراسي في مقاهٍ متناثرة يدخنون حسراتهم، مدثرين بالوحشة والنسيان، يراقبون مياه نهر الحياة محملة بقوارب البشر تجري من أمامهم ومن دونهم. أضف إلى ذلك أن العديد منهم لم تكن له طوال حياته علاقة بأعمال البيت، دع عنك فكرة غسيل الأواني في مطابخ لم يدخلوها من قبل، وإنْ حدث ودخلوها فعن طريق الخطأ أو مضطرين. ما أقصده أن انعدام العلاقة بين الرجل العربي وأعمال البيت يحيل في جوهره إلى ثقافة سائدة بحدود قاطعة وصريحة بين عالمين: واحد مخصص للرجل، ويكون خارج جدران البيت وأواني المطبخ، وآخر مخصص ومفصل للمرأة يحرمها من الانخراط في نهر الحياة خارج البيت. هذا التقسيم يمكن رصد علاماته داخل المدن، أما خارجها في القرى والنجوع والبوادي فتأخذ الحياة مجريات مختلفة بسبب شدة الحاجة إلى جهود الجميع وانخراط الجميع في توفير أسباب الحياة والعيش ضد ظروف طبيعية لا تتسم بالسهولة ولا تقبل التهاون والجلوس، ولكي يأكل الجميع ويضمنوا عيشهم تنمحي الفواصل والحدود بين الجنسين، ومَن لا يعمل لا مكان له بينهم.
والحقيقة التي لا مفر من مواجهة التعامل معها بمرونة، وسعة بال وصدر، أن التقدم في سنيِّ العمر لا يعني قطعياً حيازة الحكمة ولا احتكار النضج الحياتي اللازم للتعامل مع أحداث الواقع اليومي وإشكالاته، وأن الكهولة لا تعني سوى نهاية حقبة من عمر الإنسان، وبداية أخرى، مختلفة، لكنها ليست سُبّة ولا جريمة ولا نهاية لما يتوجب على المرء القيام به من واجبات قد تكون مختلفة وقد تستلزم منه حتى رمي كل ما تعلمه من ثقافته وراءه، واكتساب عادات وثقافة أخرى لا تعترف بتقسيم العمل ولا وضع فواصل داخل البيت، وإذا كان غسل الأواني وتنظيف البيت وتقليم عشب الحديقة يطيل العمر قليلاً ويجعل الحياة أفضل قليلاً فأهلاً به بدل الجلوس لساعات طويلة والتحديق في شاشات التلفاز.