الكلمة الآن للرفيق ستالين

كان جوزيف فيساريونوفيتش ستالين تلميذاً مخلصاً لكارل ماركس وفلاديمير لينين مؤسسي الحركة الشيوعية العالمية. ويعني اسم ستالين باللغة الروسية «الرجل الفولاذي أو الحديدي» وهو المؤسس الحقيقي للاتحاد السوفياتي في عشرينات القرن الماضي. ولد جوزيف في عام 1878، وتوفي في عام 1953، وهو من جورجيا. وظل في منصبه رئيساً للاتحاد السوفياتي والسكرتير العام للحزب الشيوعي من عام 1922 إلى عام 1953 حين توفي.
كانت بدايته صحافياً في صحيفة «برافدا» وانتهى زعيماً عالمياً. لكن بعد وفاته انقلب عليه رفاق الأمس. قال رئيس الوزراء السوفياتي الراحل نيكيتا خروشوف، الذي كان حاضراً أمام سرير ستالين ساعة وفاته، إنه ورفاقه ظلوا واقفين وجالسين حول جثمان ستالين في غرفته 3 أيام متتالية، ولا يجرؤ أحد منهم أن يعلن نبأ وفاة الزعيم، خشية أن يستيقظ من الموت ويعود إلى الحياة! وكان خروشوف زعيماً سوفياتياً ساخراً إلى درجة أنه خلع حذاءه في أحد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك احتجاجاً، ووضعه أمامه على الطاولة!
وقاد خروشوف حملة واسعة لإلغاء ستالين من تاريخ الاتحاد السوفياتي، حتى تم رفع اسمه من مدينة ستالينغراد وإعادتها إلى اسمها القديم فولغاغراد. وتم شطب كل ما له علاقة بستالين في كتب التربية والتاريخ. استعرتُ عنوان هذا المقال من كتاب «الكلمة الآن للرفيق ستالين» الذي ينتقد بشدة خروشوف، ويصفه بالفشل والانتقام من ستالين. وهناك ظاهرة في الأنظمة الشيوعية هي أن كل رئيس جديد ينتقد الرئيس السابق، مع أن الحزب الشيوعي هو نفسه الذي انتخب الرؤساء السابقين واللاحقين.
والطريف أن خروشوف كان يتولى الترجمة المباشرة للأفلام السينمائية الأميركية لستالين، من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الروسية، باعتباره عضو المكتب السياسي للحزب، والوحيد الذي يتهجى الإنجليزية. في الواقع لم يكن خروشوف يعرف من الإنجليزية إلا بعض الكلمات، إلا أنه كان يخشى بطش ستالين، لو اعترف أنه لا يجيد الترجمة، لذلك كان يكتفي بوصف اللقطات ولا يترجم أي كلمة من الحوار، لأنه لا يعرف أساساً ما الذي قاله الكاوبوي جون واين للهنود الحمر! فهو يقول إنه يفتح الباب ويغلق الشباك! إنه يمسك المسدس! إنه يضحك! إنه يركب الحصان! إنه يوجه لكمة شديدة إلى المجرم! واضطر ستالين ذات سهرة سينمائية إلى توبيخ خروشوف قائلاً: هل تعتقد أنني أعمى، لا أرى ما يعرض أمامي على الشاشة؟ أريد ترجمة ما يقوله الممثلون، لا وصفاً للحصان والبقرة والسكير الذي يسقط على السلم!
بعد هذه المقدمة، أمامي نسخة من كتاب «الكلمة الآن للرفيق ستالين» للمؤلف الروسي ريتشارد كاسالابوف، وترجمة عبد الرؤوف ياسين الخطيب، وإصدار دار الطليعة في دمشق، في عام 2011. لقد بحثت عن الكتاب فور صدوره، لكن تعذر عليّ الحصول على نسخة منه بسبب اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، إلا أني عثرت عليه في القاهرة مؤخراً بالصدفة. الكتاب من الحجم المتوسط، وبـ350 صفحة، معظمها خُطب وكلمات وتصريحات لستالين، قالها في مناسبات مختلفة.
الأميركيون الذين تابعوا الحرب الباردة بين بلادهم والاتحاد السوفياتي تدهشهم النكات الأميركية عن السوفيات، فيضحكون كثيراً. أما السوفيات فكان يدهشهم الضحك نفسه؛ لأنهم نسوا كيف يضحكون! من هذه النكات «الاشتراكية»: «يدخل رجل سوفياتي إلى أحد المحلات ويسأل ألا يوجد عندكم لحم؟ فتجيبه البائعة لا نملك أي أسماك، المحل المقابل لا يملك أي لحم»! وتقول نكتة أخرى: «وقف موظف في طابور طويل ينتظر دوره لشراء مشروبات. قال الموظف لجاره في الطابور لقد سئمت الوقوف، فاحجز مكاني لأني ذاهب لاغتيال رئيس الاتحاد السوفياتي. وبعد مضي ساعتين عاد الرجل ليطالب بمكانه المحجوز، فسأله جاره: هل تمكنت من قتله؟ فأجاب: لا، فقد كان الطابور لقتله أطول من هذا الطابور»!
وحتى لا أظهر منحازاً ضد الشيوعيين، فإن الصحف والمجلات الأميركية والبريطانية والفرنسية متخمة بالنكات عن النظام الرأسمالي غير العادل. وكانت كل أفلام شارلي شابلن تسخر من هذا النظام. هناك دائماً نكات عن الهنود واليابانيين والأفارقة، ونضحك كلنا بلا عنصرية ولا ضغينة ولا كراهية.
نرجع إلى الرفيق ستالين. كيف الحال؟ ما هو رأيك في الرئيس بوتين؟ الشعب الروسي يحبه... وهو يكتفي بذلك ولا يحتاج إلى حب السوريين أو الفنزويليين.
في عام 1933، وجّه ستالين رسالة إلى قيادي شيوعي يدعى باجانوف، جاء فيها: «تلقيت رسالتك التي تنازلت لي فيها عن وسامك الثاني، كمكافأة لي على عملي. أنا أعرف أنك حرمت نفسك من أجلي. ومع ذلك فإنني لا أستطيع قبول وسامك الثاني. لا أستطيع، ولا يجوز لي أصلاً أن أتسلمه وأسلبك حقك. لقد خـُـلقت الأوسمة لتـُـمنح ليس للأشخاص المعروفين أصلاً، وإنما لأولئك الأشخاص الذين لم يسمع بهم الآخرون والذين من الواجب تعريف الناس بهم. وبالإضافة إلى ذلك، أريد أن أخبرك أنني حصلت على وسامين، وهذا أكثر مما أستحقه. التوقيع ستالين».
طبعاً حين رحل ستالين، وجاء خروشوف، تخلى الرفاق عن الاكتفاء بوسام أو وسامين، وصار صدر خروشوف يتسع لـ20 وساماً.
في ندوة تقليدية حول إصدار كتاب ماركسي عن النظرية الاشتراكية في الاقتصاد السياسي، أقيمت في الأول من فبراير (شباط) عام 1951، قال ستالين: «لننظر إلى البلدين المهزومين في الحرب العالمية الثانية، ألمانيا الغربية واليابان. يعيش هذان البلدان الآن عيشة حقيرة تحت نعال الإمبريالية الأميركية؛ فالصناعة والزراعة والتجارة والسياسة الخارجية والداخلية في هذين البلدين وكامل معيشتهما مقيدة بنظام الاحتلال الأميركي»! وتساءل ستالين: «ألم يكن هذان البلدان البارحة دولتين إمبرياليتين كبيرتين، وكانا يهزّان أركان الهيمنة الإنجليزية والأميركية والفرنسية في أوروبا وآسيا»؟
ومترجم هذا الكتاب تـَقيد باللغة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، مثل «عيشة حقيرة» و«تحت نعال الإمبريالية الأميركية»، لكن هناك بين العراقيين الآن من يتذكر السنوات الأولى للاحتلال الأميركي للعراق بعد 2003؛ فقد كنا نعيش فعلاً «عيشة حقيرة وتحت نعال الإمبريالية الأميركية». وقد يقول قائل والآن تحت النعال الإيرانية! وعفواً هذه اللغة هي التي استخدمها الزعيم السوفياتي ستالين قبل نحو 70 عاماً، وما زالت صالحة للاستعمال، ولم تصل بعد إلى مصطلح «الإكسباير».
وعلى عكس ما هو معروف عن جبروت وفظاظة وقسوة ستالين، فإنه كان ساخراً متهكماً في كثير من الاجتماعات الحزبية، حتى في عشاء آخر الليل الذي كان يطيب له أن يدعو رفاقه إلى تناوله معه ومشاهدة أحد الأفلام الأميركية. وفي إحدى الليالي، تناول عشاءه البسيط وضحك على آخر النكات، ثم خلد إلى النوم... وكانت نومته الأبدية، إذ أصيب بنزيف في المخ وظل مشلولاً ساعات طويلة، قبل أن يتنبه الحرس إلى أن الرفيق لم يستيقظ لتناول طعام الفطور ولا طعام الغداء.
من أقوال ستالين الساخرة: «تُعتبر حالة وفاة واحدة حادثة مأساوية، أما مليون حالة وفاة فهي إحصائية»! وقال أيضاً: «من يصوتون في الانتخابات لا يقررون شيئاً، أما من يفرزون الأصوات فيقررون كل شيء!». وفي إحدى المحاضرات، قال: «السياسي الصادق مثل الماء الجاف أو الحديد الخشبي!».
وأعود إلى ندوة مناقشات الكتاب الاقتصادي الماركسي، فقد أشار ستالين إلى أخطاء المؤلفين، وسخر من اقتراحات علماء التاريخ الذين طلبوا إدراج فصل خاص بالتاريخ، واقترح الاقتصاديون إدخال باب إضافي عن الاقتصاد، واقترح السياسيون إضافة تنظير سياسي، ولم يشذ الفلاسفة الماركسيون عن الآخرين فطلبوا إضافة باب للفلسفة! وقال ساخراً لو قبلنا بهذه المقترحات لكان لدينا كتاب كبير جداً جداً جداً!
أحسن ما في كتاب «الكلمة الآن للرفيق ستالين» هو عنوانه. أما بقية الصفحات فإنا لله وإنا إليه راجعون. سبق أن قرأت مذكرات الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف، التي نشرتها صحيفة «النهار» اللبنانية، و«الأهرام» المصرية، في أوائل السبعينات من القرن الماضي، تحت عنوان «خروشوف يتذكر»، وترجمها ببراعة واحتراف الأستاذ الكبير سمير عطا الله، وقيل إن خروشوف هرّبها سراً إلى الغرب بعد الإطاحة به من الأمانة العامة للحزب الشيوعي ورئاسة وزراء الاتحاد السوفياتي. كنا نتسابق في العراق للحصول على نسخة من «الأهرام» أو «النهار» لقراءة «خروشوف يتذكر». أما ستالين فلم يعد أحد يتذكره إلا نادراً... وها أنا أفعل.