ما الحجم الحقيقي للضرر الذي تسببه رحلة الطائرة لكوكب الأرض؟

قد تبدو النصيحة هنا بسيطة: يتسبب الطيران في تكلفة مناخية باهظة مقارنةً بغيره من النشاطات الفردية. لذا، في حال كنتم من المهتمّين بتأثيراته على البيئة، يجب أنّ تقلّلوا من رحلاتكم الجويّة. ولكنّ الحقيقة هي أنّ السؤال أبعد ما يكون عن البساطة، عندما يجري الحديث حول إمكانية مقارنة السفر بنشاطات فردية أخرى، أو بالأحرى، حول اتخاذنا قرارات متعلّقة بتغييرات حياتية مرتبطة بسلوكنا المؤثّر على البيئة.

رحلات عالمية
تشهد أعداد زبائن خطوط الطيران تزايداً هائلاً منذ توسّع الأعمال عالمياً وكذلك تراجع كلفة السفر، فضلاً عن تراخي القوانين المنظمة للطيران الجوّي. وقد تأسست في السويد حركة «فلايغسكام – Flygskam»، (تعني بالسويدية «خجل الطيران») وهي حركة ناشئة تدعو الناس إلى الحدّ من استخدام السفر الجوي.
تُظهر بيانات البنك الدولي نموّاً مطرداً في رحلات الطيران بين عامي 1970 وبداية العقد الأول من الألفية الثالثة، لتسجّل بعدها ارتفاعاً جنونياً. بين عامي 2007 و2017، ازداد عدد المسافرين حول العالم إلى الضعف، وارتفع من 2.2 مليار إلى 4 مليارات في السنة الواحدة.

التأثير المناخي الفردي
يُنتج الطيران اليوم حصّة صغيرة من انبعاثات الكربون العالمية، أو ما يعادل 2.5% منها. ولكنّ حصّة المسافر من الانبعاثات الفردية هائلة. فقد أظهرت مقارنة أجراها أكاديميون سويديون وكنديون أنّ حصّة المسافر من الانبعاثات حلّت في المرتبة الثالثة في ترتيب مساهمة النشاطات الفردية في التأثير على الانبعاثات السنوية، بعد تأثير تحديد الإنجاب، والتخلّي عن السيارة.
في هذه الدراسة، يحمّل التأثير المناخي الناتج عن إنجاب طفل مسؤولية انبعاثات كربون شخص آخر طوال حياته، بالإضافة إلى حصة للأطفال الذين سينجبهم. أمّا بالنسبة إلى قرار التخلّي عن السيّارة، (والذي لن يخلو من الاستخدام النسبي للسيارات طبعاً)، فلا معنى له، إذ إنّ هذه الفكرة ما كانت لتكون موجودة أصلاً لولا امتلاك الناس للسيارات.
هاتان الحالتان تمّت مقارنتهما برحلة جويّة واحدة عابرة للأطلسي في العام. ومن هنا، يُظهر هذا النوع من الدراسات صعوبة إجراء مقارنات «المثل بالمثل» عندما يتعلّق الأمر بتقدير حجم الانبعاثات أو الخيارات المرتبطة بالاستهلاك.
تمثّل التغييرات النظامية الكبيرة في صناعة الطيران، كالإصرار على الفعالية وفرض الضرائب على الانبعاثات، حلّاً أساسياً لهذه المشكلة. يملك أسّانيو فيتاليه، أحد روّاد الأعمال في عالم التقنية وناشط مناخي مخضرم، مقارنة أخرى: يسهم كلّ مسافر في رحلة متواصلة غير منقطعة، ذهاباً وإياباً، من لندن إلى نيويورك بانبعاث نحو ثلاثة أطنان من ثاني أكسيد الكربون، أي ما يعادل كمية الانبعاثات الناتجة عن التدفئة في منزل عائلة متوسطة في بريطانيا طوال سنة كاملة.
يقترح فيتاليه على الناس التفكير دائماً بتأثير خياراتهم على البيئة، ولكنّه في المقابل، يلفت إلى أنّ التغييرات النظامية الكبرى في صناعة الطيران كالإصرار على الفعالية وفرض الضرائب على الانبعاثات تشكّل حلّاً أساسياً للمشكلة.

مقاومة السفر الجوي
إنّ التخلّي الكلي عن السفر والطيران ليس بالقرار السهل أبداً، وجميعنا يعرف أنّ تحرّك فرد واحد لن يُحدث أي فارق ما لم يعمد الآخرون إلى تغيير سلوكهم أيضاً. هذا فضلاً عن أنّ السفر نشاط عاطفي وأصبح مرتبطاً بشكل وثيق مع أسلوب حياتنا.
علاوة على ذلك، وحتى مع بطاقات الطيران التي قد تبدو باهظة، يبقى السفر بالطائرة زهيداً نسبياً، لأنّ معظم خطوط الطيران حول العالم لا تفرض أي تكاليف إضافية على انبعاثات الكربون التي تنتجها. ولكن إن فعلت، ستصبح الأسعار أعلى، تماماً كما أسعار السجائر المرتفعة بسبب الضرائب التي فُرضت عليها لتثبيط عزيمة الناس على التدخين وتغطية النفقات الصحية لمن يختارون الاستمرار به.
تثير مسألة فرض الضرائب على الكربون خلافات كبيرة. فقد أسس بعض الدول في الاتحاد الأوروبي وولاية كاليفورنيا الأميركية، أسواقاً للكربون تفرض على المصادر الصناعية الباعثة كمحطات توليد الطاقة، الدفع لشراء أرصدة الكربون لإنتاج الانبعاثات، بهدف تحفيز الكفاءة. (ولكنّ الأمور لم تسِر دائماً وفق الخطط الموضوعة، بسبب المبالغة في تكريس التراخيص، حيث إن خطة الاتحاد الأوروبي لم تجهد في محاربة الانبعاثات كما يجب). انضمّت صناعة الطيران إلى سوق الكربون الأوروبية عام 2012، ولكنّها شملت الرحلات داخل الاتحاد الأوروبي فحسب، إلّا أنّ هذا الانضمام لم يكن ذا جدوى. ولكنّ جهوداً دولية تُحضّر لتحديد سقف يضبط انبعاثات الطائرات بشكل صارم، رغم تقدّم هذه الجهود ببطء بسبب الضغوط الثقيلة التي تمارسها صناعة الطيران.
من جهتها، تقترب ألمانيا من فرض ضرائب على الكربون في مجالات كانت حتى اليوم معفاة من تطبيق خطة تجارة الكربون، كالبناء والنقل. ولكنّ غياب التعاون بين الدول سيصعّب على البلاد التي تتخذ مبادرات كهذه تطبيق قوانينها بفعالية. هذا بالإضافة إلى صعوبة السيطرة على صناعة الطيران: ففي حال عمدت خطوط الطيران الألمانية إلى رفع أسعار رحلاتها من كوبنهاغن إلى بكين مثلاً، من المحتمل أن تُجابه بتخفيض بأسعار البطاقات في خطوط طيران دانماركية أو صينية. مع استمرار الحرية التي تنعم بها صناعة الطيران وزيادة أعداد المسافرين بشكل غير مسبوق، تتوقّع منظمة الطيران المدني الدولي أنّ ترتفع الانبعاثات الناتجة عن الطيران بشكل دراماتيكي بحلول عام 2050، بمعدّل 700% عمّا كانت عليه عام 2005.

صعوبة القياس
يتوفّر بعض الأدوات الخاصّة لقياس انبعاثات الكربون ولكنّ استخدامها في السفر أمر صعب جداً. يقول فيتاليه إنّ معظم أدوات احتساب انبعاثات الكربون ليست دقيقة لأنّها تستخدم مركبتين جويتين مختلفتين (هيكل عريض وهيكل ضيّق)، فضلاً عن اختلاف المسافة التي تطيرها لتقييم الكلفة الإجمالية. كناشط سابق في «غرينبيس» (منظمة السلام الأخضر) يضع كلّ تركيزه اليوم على فعالية صناعة الطيران، يملك فيتاليه سبباً وجيهاً لتشويه سمعة أدوات احتساب الانبعاثات، وهو أنّ شركته الناشئة «فلايزين» طوّرت أداتها الخاصة لهذا الغرض. يضع هذا الابتكار فيتاليه في موقع يسمح له بتحديد سبب صعوبة فهم المستهلكين لتأثير سفرهم على المناخ.
تستخدم الأداة التي طوّرتها «فلايزين» والمصممة لصناعة الرحلات المحجوزة، مقاييس أكثر من الأدوات الأخرى، كنموذج الطائرة المحدّد، والمحرّكات المستخدمة على طرق معيّنة ومن قبل شركات مختلفة، والتوقّف خلال الرحلة، وعدد المقاعد في كلّ طائرة، وحتى الوقت الذي تمضيه الطائرة في السير على المدرج قبل الإقلاع وبعد الهبوط. عند استخدامها لقياس الانبعاثات الناتجة عن ثلاث رحلات بين فرانكفورت ونيويورك، أظهرت الأداة فروقات كبيرة. فقد تبيّن وفقاً للبيانات المسحوبة من المقياس أنّ رحلة واحدة على متن خطوط «لوفتهانزا» الألمانية تُنتج انبعاثات بمعدّل 1.3 طنّ من ثاني أكسيد الكربون للمسافر الواحد، بينما تنتج خطوط الطيران الأميركية الضعف تقريباً، أي 2.3 طنّ من الانبعاثات.

مشكلة العصر
يعارض مايكل مان، من جامعة ولاية بنسلفينيا، وغيره من علماء المناخ، الإقدام على أي تضحيات فردية فيما يتعلّق بالتغيّر المناخي مهما كانت كبيرة، لأنّهم يشعرون أنّ التأثير الحقيقي لن يحصل إلّا بتحرّك الحكومات.
يقول مان إنّ التحوّل إلى أشخاص نباتيين، والتخلّي عن الطيران، والعدول عن فكرة الإنجاب من شأنه أن يشتتنا عن التغييرات المهمّة التي يجب أن تحصل على صعيد الشركات الكبرى والقوانين التنظيمية. (في المقابل، يخرج رأي آخر معارض يعتبر أنّ تقديم التضحيات الفردية لن يشتّتنا، بل على العكس، سيزيد من عزمنا على الضغط على المؤسسات والحكومات لفرض ممارسات أفضل).
تضعنا حجّة مانّ أمام خيارين اثنين: إمّا انتخاب سياسيين يتعهدون بالقيام بالتغييرات المطلوبة، وإما تكريس حياتنا (ووقت فراغنا) للضغط عليهم للقيام بهذه التغييرات. تضع حركة «إكستنكشن ريبيليون» (ثوّار ضدّ الانقراض) التي اجتاحت المملكة المتحدة ودول أخرى أخيراً، هذا الهدف في صلب نشاطاتها، من خلال حثّ الحكومات على القيام بالخطوات المطلوبة ورفع الصوت عالياً عبر تحرّكات تشمل شلّ حركة أوساط المدن والاعتقالات الجماعية.
يقول تشارلز كون، الرئيس التنفيذي لشركة «أوكسفورد ساينسز إنوفيشن» إنّ هذه التحرّكات هي ردّة فعل طبيعية على ما سماها «المشكلات الملعونة»، أي المعضلات المعقّدة المتعددة الأسباب، و«تعزيز السببية»، أي مساهمة أحد الحلول في زيادة الحال سوءاً في جوانب أخرى من المشكلة. ولكنّ البحث في مشكلة التغير المناخي الملعونة في كتابه الأخير «بوليت بروف بروبلم سولفينغ» (حلّ مشكلة مضادة للرصاص) قاد كون إلى خلاصة متفائلة مفادها أنّ الشركات الكبرى نفسها تتألّف من أفراد مسؤولين عن اتخاذ القرارات.
في مقابلة أجراها مع موقع «كوارتز»، رأى كون أنّ «انبعاثات الكربون التي ننتجها نحن البشر معروفة ويمكن التأثير عليها». ورجّح «أننا إن استطعنا تحقيق تغيّرات سلوكية معيّنة في حياتنا الخاصة والعملية، وعرضناها على الرجال والنساء الذين يديرون مؤسساتنا» سنكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في معركتنا مع المناخ، مشدّداً في الوقت نفسه، على حاجتنا إلى قادة مسؤولين يتولّون إدارة ما تبقى من المعركة.
- «كوارتز»،
خدمات «تريبيون ميديا».