مغيث: الكتابات الحديثة تحكم اختياراتنا للأعمال المترجمة

يؤدي «المركز القومي للترجمة» دوراً مهماً في الحياة الثقافية المصرية، عبر كثير من الترجمات المتنوعة إلى العربية، في شتى المعارف الإنسانية. مؤخراً، أعلن المركز عن استراتيجية جديدة للخروج من «قبضة المركزية الأوروبية»، والسعي للنقل والترجمة من العربية إلى لغات أخرى، والانفتاح أيضاً على ثقافات غير أوروبية، كالثقافة الصينية.
هذا حوار مع رئيسه دكتور أنور مغيث الذي ترجم عدداً من المؤلفات الفكرية الفرنسية إلى العربية، الحاصل على جائزة ابن خلدون - سنغور للترجمة، للتعرف على أبعاد هذه الاستراتيجية، وآرائه حول الترجمة والآليات التي تحدد طبيعتها وأولوياتها، من خلال تجربته الشخصية ورئاسته للمركز.
> أطلق «المركز القومي للترجمة» جائزة الترجمة الصينية، رغم أن بدايات الترجمة للصينية انطلقت في المركز منذ سنوات كثيرة... كيف ترى ذلك؟
- هو نموذج جديد للتعاون الثقافي مع الصين، ويهم المركز القومي للترجمة القيام بترجمات تحت مبدأ الخروج من المركزية الأوروبية، والصين من أهم الحضارات، ورغم ذلك وجدنا أن الترجمة من الصينية إلى العربية والعكس قليل للغاية، لذا أطلقنا المسابقة لتشجيع الشباب على خوض تجربة الترجمة. الصين من جانبها بدأت تخرج من الانطواء والاكتفاء الذاتي، بل تود الخروج للعالم والانفتاح عليه، وتقديم نفسها كقوة راسخة عالمياً، تأكيداً على دور القوة الناعمة والإصلاح الثقافي. فجاءت المسابقة نموذجاً لتحقيق هذه المصلحة المشتركة. وهنا، تلتقي مصلحة الطرفين المشتركة؛ سوف يقومون بدفع مكافآت المترجمين الفائزين، ونحن نتحمل مكافآت الفاحصين للأعمال المشاركة، وسيتم طبع الكتاب الأول الفائز.
> ماذا عن الترجمات من القارة السمراء؟ لقد نشر المركز عدة ترجمات من قبل.
- بالفعل، صلتنا بأفريقيا صلة وطيدة جداً، جغرافياً وتاريخياً، ويفرضها علينا التاريخ السياسي والاجتماعي، وتحديداً منذ عصر الحركات التحررية. أفريقيا عمق لمصر فيما يتعلق بالفعالية الاقتصادية، ورغم ذلك فإن الوعي محدود بتاريخها وثقافاتها والفنون والآداب واللغات التي يتم استخدامها، وبالتالي نحرص على تقوية الاهتمام بالقارة السمراء. لقد ترجمنا 70 كتاباً عن أفريقيا في المجالات كافة، ولدينا تحت الطبع 30 كتاباً.
> ما معايير المركز في اختيار الأعمال المترجمة؟
- تكون الأولوية دائماً للكتابات الحديثة، لمتابعة ما يجري في العالم. وعندما يكون هناك كتاب كلاسيكي مهم ما يزال حاضراً في ذاكرة الناس، فنحن نعيد ترجمته أو إصداره، مثل «الإلياذة» التي قدمنا لها ترجمتين: أول ترجمة لبطرس البستاني، بالشعر العمودي المسجوع الموزون، وترجمة جديدة تمت بفريق يرأسه د. أحمد عتمان، وهي من الأعمال التي تنفد طباعتها رغم ارتفاع ثمنها. وأعمال كبار الأدباء الكلاسيكيين، مثل جوته وديكنز وشكسبير، لا نعيد ترجمتها لكن نعيد إصدارها.
> هل تؤدي العوامل السياسية دوراً في اختيارات اللغات والثقافات التي تترجم للعربية؟
- القاعدة الأساسية أن هناك ثقافة منتجة وثقافة مستقبلة، وتقوم الثقافات المستقبلة بانتقاء ما يترجم، مثلا هناك 200 كتاب ألماني جديد، لكن تترجم الثقافة المستقبلة منها حسب حاجتها ورؤيتها واستقبالها للتقاليد والعادات، لكن الدول المنتجة لا تترك التراجم على هوى الدول المستقبلة لأنها تهتم بانتشار كتب معينة، كعنوان لفكرها وثقافتها وفلسفتها في الحياة. ويتم ذلك عن طريق تقديم الدعم المادي لتكاليف الترجمة، وتعد فرنسا من أكثر الدول التي تهتم بنشر ثقافتها وفكرها. ونتمنى أن يكون هناك دعم من الدولة للترجمة العكسية لنشر الثقافة والفكر المصري.
> حصلت مؤخراً على جائزة منظمة الأليكسو للترجمة، ابن خلدون - سنغور للترجمة، حدثنا عن اهتمامك بترجمة الفلسفة الفرنسية.
لم أخطط في حياتي كي أكون مترجماً، بل طرأت تحديات في حياتي العملية ساقتني لمجال الترجمة. في بداية حياتي، أردت أن أحصل على الدكتوراه في فرنسا، وأسلك المسار الأكاديمي، متأثراً بكتابات الحكيم وطه حسين عن باريس والثقافة الفرنسية. وبالفعل، كانت درجة الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا، ووجدت نفسي إلى جانب التدريس مضطراً لتخصيص الوقت للترجمة، نزولاً على رغبة تلاميذي بالجامعة وزملائي، وطالبني د. جابر عصفور بترجمة كثير من كتب الفلسفة والعلوم الإنسانية، علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد وغيرها، ثم نتيجة لذلك عرض عليّ تولي إدارة المركز القومي للترجمة، بعد أن تعاملت مع المركز لسنوات كمترجم.
وجاءت بعد سنوات جائزة ابن خلدون - سنغور عن خدمة الثقافتين العربية والفرنسية، وعن مجمل ترجماتي، وتأسيس المعهد الفرنسي لإعداد المعلمين باللغة الفرنسية مع جامعة حلوان. ما يهمني هو إتاحة فرصة أفضل للأجيال الجديدة للتعامل مع العالم، ومواكبة التطور العالمي.
> في عصر التحولات التكنولوجية المتسارعة، نلمس تراجعاً للفكر الفلسفي والكتب التي تتناول تنظيرات تفسر ما نمر به، هل يمكن أن تتخلى الإنسانية عن الفلسفة؟
- لا أرى تراجعاً، بل اختفت المذاهب مثل: الوجودية والبراغماتية والماركسية. العالم في أمس الحاجة للفلسفة بسبب ظهور مشكلات أخلاقية وفكرية كبرى يتعرض لها الآن بسبب التقدم العلمي، وتحديداً في مجال الهندسة الوراثية والتطبيقية، لا يوجد حل لها في العلوم، بل نحتكم فيها إلى الأخلاق والفلسفة. لا نحتاج لمذهب كبير مثل الماضي، بل نحتاج لأوراق فلسفية تطرح المشكلات والأسئلة حولها.
> هل تمثل الفلسفة الخلاص الإنساني من مثالب التكنولوجيا؟
- البشر عايشوا كثيراً من الإنجازات، بداية من الدراجة إلى السيارة إلى الصاروخ، وكانت مصدر سعادة ورفاه للإنسان، الآن باتت الاختراعات والتكنولوجيا تثير قلق البشرية، خصوصاً فيما يتعلق بمصيرها ومستقبلها. لم تعد التكنولوجيا تثير الإعجاب والزهو، وعرفنا الآن أنه ليس كل مشكلة لها حل تكنولوجي، بل لا بد من حل أخلاقي لمشاكل الإنسان، عبر الحكمة أو الفلسفة. الإسراف في الاعتماد على التكنيك ينهك الإنسان، في حين أن البساطة والعودة للطبيعة أفضل من حيث نوعية الحياة، وهناك اتجاه إلى البساطة العمدية، سنجد أن كبار العلماء يتجه للعيش بعيداً عن المدن.
> ترجمت عدداً من الأعمال الفلسفية الفرنسية، لـتورين ودريدا وبورديو، رغم صعوبة لغتهم، لماذا يعد فكرهم حداثياً سابقاً لعصره، وأصبحت كتبهم مرجعاً لحل معضلات حياتية معاصرة؟
- هم نجوم في مجال الفكر الفلسفي، وكان كثيرون يعتقدون أنهم موضة فكرية، وأن أسماءهم ستتردد لفترة معينة وتختفي، لكن ثبت العكس. يجب أن نعلم أن معايير الحكم على فيلسوف نحتكم فيها لمؤشر كمي موضوعي، ألا وهو عدد اللغات التي ترجمت إليها مؤلفاته، جيل دولوز ترجم إلى 45 لغة أجنبية، ودريدا إلى 50 لغة أجنبية، وكذلك بوروديو 55 لغة، معنى ذلك أن فكرهم الحداثي ونظرياتهم مهمة لتفسير الواقع في كثير من المجتمعات ذات الثقافات المغايرة، أي أن فكرهم إنساني بالدرجة الأولى. ليس معناها أنهم يقولون الحقيقة لأنها صفة نطلقها على الإجابات، وليس الأسئلة... برأيي، لأنهم فلاسفة طرحوا الأسئلة الصحيحة، حتى لو لم يقدموا لنا الإجابات الصحيحة؛ نبحث عمن يطرحون الأسئلة أكثر ممن يقدمون الإجابات.
> هل تعتبر الترجمة كتابة جديدة؟
الترجمة ليست إعادة إنتاج. الكتاب المترجم أثار تساؤلات كثير من الفلاسفة، فهو ليس نسخة طبق الأصل، لأنها تدخل عالما لغوياً جديداً، بألفاظ ودلالات جديدة، وليس الحديث بلسان المؤلف، بل الحديث بلسان المترجم ولغته وثقافته، لذا يعتبرها دريدا «حياة جديدة للنص». فالنص الأصلي يخرج بلغته وثقافته، ويؤثر في القراء ويتفاعل معهم، وحينما يتحول للعربية، مثلاً، سيؤثر تأثيراً مختلفاً عن تأثيره في الثقافة الأصلية.
> ماذا عن أحدث مشروعات المركز القومي للترجمة المقبلة؟
نتوسع في ترجمات إلى لغات جديدة، بخاصة الترجمة من العربية للغات الأخرى، مع التركيز على تطوير التدريب على الترجمة التخصصية، بدلاً من أسابيع قليلة، ليحصل الشخص على دبلوم في الترجمة يستغرق الدراسة لمدة عام، مع شهادة معتمدة من إحدى الجامعات المصرية.