الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض

واشنطن تتدخل بعد انكفاء لحماية الاستقرار ومنع التدهور الاقتصادي والسياسي

الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض
TT

الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض

الملف اللبناني على طاولة البيت الأبيض

عادت الولايات المتحدة الأميركية عن انكفائها عن الوضع الداخلي اللبناني منذ 2005، وتدخلت بشكل مباشر تنبيهاً وتحذيراً من انفلات الأمور وتدهور الاستقرار في بيان نادر وغير مسبوق. هذا البيان عجّل الاتصالات التي أفضت إلى تسوية الأمور، وإعادة تفعيل مجلس الوزراء المعطل لمدة 5 أسابيع عن الاجتماع، إثر الانقسام السياسي الحاد بين المكونات اللبنانية على خلفية الإشكال المسلح في منطقة قبرشمون في جبل لبنان، وهو الإشكال الذي أسفر عن مقتل اثنين من مرافقي وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب.
البيان المفاجئ الصادر عن السفارة الأميركية في بيروت، يوم الأربعاء الماضي، الداعي إلى تجنب «تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية»، يكشف إعادة واشنطن الملف اللبناني الداخلي إلى دائرة اهتماماتها - بعد تنحيته، على الأقل إعلامياً - منذ 2005، وضمته أخيراً إلى الملفات اللبنانية ذات التقاطعات الدولية أو الإقليمية التي تعتبر نفسها معنية بها. وهذا أمر يرى فيه مسؤولون ومراقبون «تدخلاً حاسماً للحفاظ على الاستقرار والستاتيكو القائم»، نجح في إعادة الأمور إلى نصابها بفعل الضغط الذي تستطيع واشنطن ممارسته في حال رفض الاستجابة لهذا المطلب.
يكشف البيان الذي أصدرته السفارة الأميركية في بيروت، يوم الأربعاء الماضي، انخراطاً غير مسبوق في الوضع الداخلي اللبناني تستأنف عبره واشنطن نشاطها على الساحة اللبنانية لتعزيز الاستقرار، ومنع التدهور الأمني والاقتصادي، وتفعيل عمل المؤسسات. وهذه ثوابت لطالما أعلنت الولايات المتحدة تمسكها بها، لحماية المكتسبات السياسية اللبنانية التي رعتها بنفسها، خلال ثماني سنوات من التوترات في المنطقة. وعليه، يدخل لبنان في حقبة جديدة تعلن فيها واشنطن عن رعايتها الاستقرار السياسي، وتتدخل لإحاطته بدرع حماية عندما تدعو الحاجة، أسوة بتدخلات سابقة كانت مباشرة وتنوعت بأدواتها، حدثت أعوام 1958 و1983 و2005.
الوسط السياسي اللبناني فوجئ بالبيان حول الأزمة السياسية المتصاعدة في الداخل اللبناني إثر أزمة قبرشمون، التي خلقت اصطفافات جديدة على المشهد السياسي. وجاء البيان بعد انسداد السبل لحلحلة الأزمة، حين أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي وقفه مبادراته، واستسلام المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي واظب على إجراء لقاءات مع المعنيين في «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الحزب الديمقراطي اللبناني»، واعتبار «التقدمي الاشتراكي» أن الرئيس اللبناني ميشال عون دخل طرفاً في الصراع، عندما نُقل عنه قوله لزواره إن الكمين كان معدّاً لاغتيال وزير الخارجية جبران باسيل.
الأزمة، برأي مراقبين وسياسيين، تتخطى الجانب القضائي والأمني. هي ذات امتدادات سياسية، حذّرت مصادر سياسية من أنها تسعى للإخلال بالتوازنات السياسية القائمة منذ عام 2005، التي يسعى وزير الخارجية جبران باسيل (المدعوم من «حزب الله») إلى تغييرها عبر إقصاء النائب السابق وليد جنبلاط، أو تقليص حضوره السياسي وموقعه، إضافة إلى تهميش حزب «القوات اللبنانية». وهو ما تصدّى له رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري. ثم دخلت الأزمة في منعطفات خطيرة، إثر اتهام «التقدمي الاشتراكي» مقرّبين من رئيس الجمهورية بـ«فبركة» ملف قضائي للاقتصاص من جنبلاط.

بيان نادر وغير مسبوق
في ظل هذه التطورات التي أفضت إلى تعقيدات سياسية في غياب أي أفق للحل، أصدرت السفارة الأميركية في بيروت بياناً غير مسبوق لناحية تأكيده على ملف لبناني محلي صرف. وجاء البيان مرتبطاً بصلب الأزمة السياسية الراهنة في لبنان التي اندلعت إثر الإشكال في قبرشمون، وأجّج الانقسام السياسي على خلفية إصرار «الحزب الديمقراطي اللبناني» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني) لإحالته إلى المجلس العدلي، مقابل رفض رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري. وإثر هذا الانقسام، رفض رئيس الحكومة الدعوة لعقد جلسات لمجلس الوزراء منعاً لتفجر الحكومة ونقل الخلافات إلى داخلها، لا سيما أن الخلاف المتصاعد هو تحديداً بين وزراء كتل ممثلة في الحكومة، اثنان منهم من حصة جنبلاط، والآخر هو صالح الغريب، فضلاً عن وزير الخارجية جبران باسيل الذي يتهمه «التقدمي الاشتراكي» بالمسؤولية المعنوية والسياسية والقانونية عن الحادثة.
بيان السفارة، الذي وُصِف بأنه غير مسبوق ونادر تضمن تنبيهاً من استمرار التأزم والانغلاق على الحلول لأزمة قبرشمون، ولقد أكدت السفارة عبره «دعم الولايات المتحدة المراجعة القضائية العادلة والشفافة دون أي تدخل سياسي». وشدّدت على أن «أي محاولة لاستغلال الحادث المأسوي الذي وقع في قبرشمون في 30 يونيو (حزيران) الماضي بهدف تعزيز أهداف سياسية، يجب أن يتم رفضها».
وقالت السفارة إن الولايات المتحدة «عبَّرت بعبارات واضحة للسلطات اللبنانية عن توقّعها أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية».

ضمان استمرار المؤسسات
يكسر البيان السلبية الأميركية واستراتيجية واشنطن السابقة القاضية بتجنّب الدخول في الملفات الداخلية، فهي نادراً ما تصدر بياناً مرتبطاً بأزمة داخلية أو ملف محلي وله علاقة بصلب الأزمة السياسية المتصاعدة في لبنان، بل تكتفي بالإشادة في الملفات اللبنانية الداخلية بإجراء استحقاقات كالانتخابات النيابية، أو تشكيل الحكومة. وعادة ما كانت السفارة تصدر بيانات متعلقة بملفات لبنانية ذات إبعاد إقليمية ودولية وأمنية، مثل دعم الجيش اللبناني والقوى المسلحة الشرعية في محاربة الإرهاب وحفظ الاستقرار، وأخرى متعلقة بالحفاظ على الاستقرار الحدودي جنوباً والالتزام بالقرار الدولي «1701». وتشدّد على دعمها على الاستقرار في البلاد، وعلى تفعيل عمل المؤسسات.
وفي ضوء هذا التطور، أوضح مصدر مراقب للمواقف الأميركية في لبنان لـ«الشرق الأوسط» أن البيان «يتضمن تنبيهاً من استمرار الأزمة وإقفال المؤسسات وتجميد عملها». ولفت إلى أن السفارة في العادة «تمارس الحذر لجهة إبداء راي أو موقف في ملفات لبنانية محلية، لكن هذا البيان يبدو أنه ينطلق من مخاوف جدية من تعطيل لعمل المؤسسات، علماً بأن الأزمة متعلقة بصلب عمل المؤسسات الرسمية»، وبالأخص، تعطيل اجتماعات الحكومة لخمسة أسابيع حتى الآن بغياب أي موعد محدد لاستئنافها، إضافة إلى «المخاوف من أن تذهب الأمور إلى موقع خارج السيطرة ما يطيح بمكتسبات مؤتمر (سيدر)». وشدّد المصدر على أن الموقف هو للتحفيز على تفعيل المؤسسات والتحذير من استمرار التأزم السياسي.

ضرورة الاحتواء
من ناحية أخرى، جاء البيان وسط مخاوف محلية ودولية من أن يكون التأزم السياسي محاولة للعودة إلى الأزمة التي يبدو على أنها تنتشر وتتبعثر في كل الاتجاهات، حسب الناشط السياسي ومدير مركز «أمم للأبحاث والتوثيق» لقمان سليم.
سليم أشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «ليس بالأمر المعهود أن تصدر سفارة واشنطن في بيروت بيانات عند كل حادثة أو تطوّر سياسي أو أمني يقع في لبنان»، لكن هذا التطوّر الأمني الأخير في حادثة قبرشمون «أدى إلى تعطيل سياسي غير مسبوق ومفتوح على الوقت»، وعليه فإن «واشنطن في سياق الدعم المستمر للاستقرار في لبنان، تحاول إيجاد مخرج»، ثم أضاف: «في العقل الأميركي، يجب على القضاء أن يقوم بدوره، لكن ربما ينظر البعض من اللبنانيين إلى أن القضاء في لبنان قد يكون جزءاً من المشكلة، ومن هنا تأتي الدعوة للتعامل مع الحادث بطريقة تحقق العدالة دون خلفيات سياسية».
ورأى سليم أن ما ورد «يصحّ فيه التحذير من استمرار الوضع، وإبقاء الأزمة مفتوحة دون اجتراح طريقة لاحتوائها»، مشدداً على أن «ما يعني واشنطن هو الحفاظ على الاستقرار، وتحت هذا العنوان أقرّا البيان والدعوة للملمة الموضوع وعدم تركه يتفاعل ويتسرطن أكثر لأن الجسم اللبناني هشّ، وبقاء الأمور على نحو متأزم قد يعرّض الاستقرار للخطر لأسباب أنانية».
وعن إمكانية أن يعتبر البعض البيان في الداخل اللبناني اصطفافاً مع فريق دون آخر، قال سليم إن «هذا هو التفسير البلدي المحلي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار أن بلداً كاملاً يُنظر إليه على أنه معطّل وبحالة خطر، لكنه في الواقع ليس اصطفافاً، بل ربما يكون دعوة لحلفاء واشنطن للسير في طريق الاحتواء الذي ربما لن يكون مخرجاً كاملاً، لكنه في الوضع اللبناني قد يكون تأجيلاً لأزمة لم يوجد الحل الكامل لها».

غطاء أمني واقتصادي مستمر
للعلم، يتصدّر حرص واشنطن على استمرار عمل المؤسسات، الأولويات الأميركية، لكن لا يمكن تحييده عن الملفات المرتبطة بالاستقرار اللبناني الذي يضمنه عمل المؤسسات، وهي ملفات تُعتبر الولايات المتحدة معنية بها. وهنا علّق رياض طبارة، سفير لبنان الأسبق في واشنطن، قائلاً: «هناك غطاء أمني واقتصادي دولي للبنان، إذ لا مصلحة لأحد، سوار الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى إيران بالإخلال به. وعادة تعتبر الولايات المتحدة رأس الحربة في توفير هذا الغطاء، وهي لا تتدخل في كل شاردة وواردة في الشأن اللبناني، إلا إذا كانت الأمور ستخرج عن السيطرة، وهو ما دفعهم أخيراً للتدخل».
ولفت طبارة إلى أن السفيرة الأميركية في بيروت «جالت على المسؤولين اللبنانيين، وأبلغتهم أن فقدان السيطرة على الاستقرار غير مسموح به. لكن الأمور (مع ذلك) لم تتجه نحو التهدئة، وهو ما دفع واشنطن لإصدار بيان تحذيري يحذر من المواجهات الطائفية».
وأعرب طبارة عن اعتقاده أن الأميركيين «جاهزون لاستخدام إجراءات صارمة لحماية الاستقرار، وكان البيان توجيهياً في مضمونه نحو عقد مصالحة ومنع الأمور من التدهور باتجاه منحى طائفي أو مواجهة طائفية غير مسموح بها».

3 محطات سابقة
لا ينفي جميع المطلعين على أن التدخل في البيان كان نادراً، لكنه يتشابه بالظروف مع ثلاث محطات سابقة دفعت واشنطن للتدخل مباشرة في الشأن اللبناني عندما كانت الأمور تفلت عن السيطرة.
السفير طبارة ذكر أن «كل حقبة كانت لها ظروفها، بدءاً من عام 1958 حين نفذ الجيش الأميركي إنزالاً على الشواطئ اللبنانية. وفي عام 1983 عندما بدا أن هناك محاولة لسيطرة أجنبية على القرار اللبناني ما دفع بالأميركيين للتدخل عسكرياً إلى جانب قوات إيطالية وفرنسية، قبل استهداف قوات (المارينز) الأميركية والقوات الفرنسية في بيروت بتفجيرات. وفي المرة الثالثة، بعدما رفض السوريون الانسحاب من لبنان وإعادة الوضع لفترة ما قبل التدخل السوري، فكان القرار 1559 في عام 2004. ليليه الدعم السياسي لـ(انتفاضة 14 مارس)، التي أدت إلى الانسحاب السوري من لبنان وإعادة الأمور إلى نصابها. والآن في ظل الصدام السياسي الذي أنذر بانفلات الأوضاع». ووفق طبارة «مع أن كلّ تدخل له حيثياته، فإن القاسم المشترك في التدخلات المباشرة هو أنه من غير المسموح أن تخرج الأمور عن السيطرة في لبنان، خصوصاً بعد الحرب الأهلية».

أولويات أميركية
ينظر كثيرون إلى أن التدخل الأميركي لحماية الاستقرار في هذه المرحلة، ينطلق من ملفات ترى الولايات المتحدة أن إنجازها أو الحفاظ عليها ضمن الوضع القائم (الستاتيكو) من أولوياتها. أبرز هذه الأولويات هي: الاستحقاق المقبل المرتبط باستخراج النفط والغاز في البحر المتوسط، وأمن الحدود الجنوبية، وتحييد لبنان عن لهيب الأزمة السورية، ووجود مليون لاجئ سوري في لبنان، والاستحقاقات المرتبطة بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، واحتواء التمدد الإيراني الذي «يستفيد من الفوضى» في المنطقة، والدعم بالعتاد والتدريب للجيش اللبناني. غير أن طبارة ينظر إلى تلك الملفات على أنها تفاصيل، رغم أهميتها الكبيرة، خصوصاً أمن الحدود الجنوبية. إذ يشدد على أن «الأولوية المطلقة التي تعتبرها واشنطن بنداً أساسياً في لبنان يتمثل في السيطرة على الأوضاع، بحيث لا تندلع حرب أهلية يعجز الجميع عن احتوائها والسيطرة عليها، ومن شأن أي اهتزاز بالاستقرار أن يطيح بكل تلك الملفات التي يراها البعض أولويات».
في الوقت نفسه، يعتبر طبارة أنه «لا مصلحة لأحد في أن يتدهور الاستقرار في لبنان، لا الولايات المتحدة ولا إيران، رغم اختلاف الأسباب من وجهة نظر كل منهما»، مضيفاً: «بينما تتطلع واشنطن إلى أهمية الحفاظ على استقرار وضع الحدود الجنوبي وأمن إسرائيل، تأتي إيران ضمن الدول التي تفرض غطاء أمنياً أيضاً منعاً لتدهور الأمور، لأنه لا مصلحة لها بإضاعة ملايين الدولارات التي أنفقتها على الترسانة الصاروخية لـ(حزب الله)، وتكتنزها للاستخدام في أي مواجهة محتملة مع إسرائيل، والاستفادة منها في الصراع. وبالتالي، لا مصلحة لها بإضاعتها على حرب أهلية داخلية، وهو ما يدفعها للدخول في المنظومة التي تهدئ الأمور، وأن يبقى لبنان محيداً عن الصراع».

انقسام لبناني حول «بيان واشنطن»
> أدان «حزب الله» بشدة البيان الصادر عن السفارة الأميركية، واعتبره «تدخلاً سافراً وفظاً في الشؤون الداخلية اللبنانية، ويشكل إساءة بالغة للدولة ومؤسساتها الدستورية والقضائية»، ورأى أنه «تدخل مرفوض في نزاع سياسي محلي وقضية مطروحة أمام القضاء اللبناني القادر منفرداً على القيام بواجباته على أكمل وجه».
في حين جاءت آراء بعض السياسيين، حتى من القريبين من «حزب الله» أقل حدة، إذ قال نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي إن «بيان السفارة الأميركية فيه إيحاء بأن واشنطن تقف في صف حلفائها»، مشيراً في حديث تلفزيوني إلى أنه «وجد تراثاً لبنانياً قديماً باستقدام التدخل الخارجي في الخلاف الداخلي».
أما النائب السابق عمّار حوري، مستشار رئيس الحكومة سعد الحريري، فقد حذّر من أخذ الأمور بخفة، واعتبر أن «بيان السفارة الأميركية يُسلّط الضوء على المخاطر التي قد نواجهها»، مذكّراً «بأننا في مرحلة إعادة تصنيف دولي على الصعيد الاقتصادي، وأننا نسعى لاستثمار مقررات (سيدر)، من خلال دعم دولي، وكل هذا لا يتأتى إلا من خلال علاقات طيبة مع دول العالم».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.