عادت الولايات المتحدة الأميركية عن انكفائها عن الوضع الداخلي اللبناني منذ 2005، وتدخلت بشكل مباشر تنبيهاً وتحذيراً من انفلات الأمور وتدهور الاستقرار في بيان نادر وغير مسبوق. هذا البيان عجّل الاتصالات التي أفضت إلى تسوية الأمور، وإعادة تفعيل مجلس الوزراء المعطل لمدة 5 أسابيع عن الاجتماع، إثر الانقسام السياسي الحاد بين المكونات اللبنانية على خلفية الإشكال المسلح في منطقة قبرشمون في جبل لبنان، وهو الإشكال الذي أسفر عن مقتل اثنين من مرافقي وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب.
البيان المفاجئ الصادر عن السفارة الأميركية في بيروت، يوم الأربعاء الماضي، الداعي إلى تجنب «تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية»، يكشف إعادة واشنطن الملف اللبناني الداخلي إلى دائرة اهتماماتها - بعد تنحيته، على الأقل إعلامياً - منذ 2005، وضمته أخيراً إلى الملفات اللبنانية ذات التقاطعات الدولية أو الإقليمية التي تعتبر نفسها معنية بها. وهذا أمر يرى فيه مسؤولون ومراقبون «تدخلاً حاسماً للحفاظ على الاستقرار والستاتيكو القائم»، نجح في إعادة الأمور إلى نصابها بفعل الضغط الذي تستطيع واشنطن ممارسته في حال رفض الاستجابة لهذا المطلب.
يكشف البيان الذي أصدرته السفارة الأميركية في بيروت، يوم الأربعاء الماضي، انخراطاً غير مسبوق في الوضع الداخلي اللبناني تستأنف عبره واشنطن نشاطها على الساحة اللبنانية لتعزيز الاستقرار، ومنع التدهور الأمني والاقتصادي، وتفعيل عمل المؤسسات. وهذه ثوابت لطالما أعلنت الولايات المتحدة تمسكها بها، لحماية المكتسبات السياسية اللبنانية التي رعتها بنفسها، خلال ثماني سنوات من التوترات في المنطقة. وعليه، يدخل لبنان في حقبة جديدة تعلن فيها واشنطن عن رعايتها الاستقرار السياسي، وتتدخل لإحاطته بدرع حماية عندما تدعو الحاجة، أسوة بتدخلات سابقة كانت مباشرة وتنوعت بأدواتها، حدثت أعوام 1958 و1983 و2005.
الوسط السياسي اللبناني فوجئ بالبيان حول الأزمة السياسية المتصاعدة في الداخل اللبناني إثر أزمة قبرشمون، التي خلقت اصطفافات جديدة على المشهد السياسي. وجاء البيان بعد انسداد السبل لحلحلة الأزمة، حين أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي وقفه مبادراته، واستسلام المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي واظب على إجراء لقاءات مع المعنيين في «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الحزب الديمقراطي اللبناني»، واعتبار «التقدمي الاشتراكي» أن الرئيس اللبناني ميشال عون دخل طرفاً في الصراع، عندما نُقل عنه قوله لزواره إن الكمين كان معدّاً لاغتيال وزير الخارجية جبران باسيل.
الأزمة، برأي مراقبين وسياسيين، تتخطى الجانب القضائي والأمني. هي ذات امتدادات سياسية، حذّرت مصادر سياسية من أنها تسعى للإخلال بالتوازنات السياسية القائمة منذ عام 2005، التي يسعى وزير الخارجية جبران باسيل (المدعوم من «حزب الله») إلى تغييرها عبر إقصاء النائب السابق وليد جنبلاط، أو تقليص حضوره السياسي وموقعه، إضافة إلى تهميش حزب «القوات اللبنانية». وهو ما تصدّى له رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري. ثم دخلت الأزمة في منعطفات خطيرة، إثر اتهام «التقدمي الاشتراكي» مقرّبين من رئيس الجمهورية بـ«فبركة» ملف قضائي للاقتصاص من جنبلاط.
بيان نادر وغير مسبوق
في ظل هذه التطورات التي أفضت إلى تعقيدات سياسية في غياب أي أفق للحل، أصدرت السفارة الأميركية في بيروت بياناً غير مسبوق لناحية تأكيده على ملف لبناني محلي صرف. وجاء البيان مرتبطاً بصلب الأزمة السياسية الراهنة في لبنان التي اندلعت إثر الإشكال في قبرشمون، وأجّج الانقسام السياسي على خلفية إصرار «الحزب الديمقراطي اللبناني» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني) لإحالته إلى المجلس العدلي، مقابل رفض رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس الحكومة سعد الحريري. وإثر هذا الانقسام، رفض رئيس الحكومة الدعوة لعقد جلسات لمجلس الوزراء منعاً لتفجر الحكومة ونقل الخلافات إلى داخلها، لا سيما أن الخلاف المتصاعد هو تحديداً بين وزراء كتل ممثلة في الحكومة، اثنان منهم من حصة جنبلاط، والآخر هو صالح الغريب، فضلاً عن وزير الخارجية جبران باسيل الذي يتهمه «التقدمي الاشتراكي» بالمسؤولية المعنوية والسياسية والقانونية عن الحادثة.
بيان السفارة، الذي وُصِف بأنه غير مسبوق ونادر تضمن تنبيهاً من استمرار التأزم والانغلاق على الحلول لأزمة قبرشمون، ولقد أكدت السفارة عبره «دعم الولايات المتحدة المراجعة القضائية العادلة والشفافة دون أي تدخل سياسي». وشدّدت على أن «أي محاولة لاستغلال الحادث المأسوي الذي وقع في قبرشمون في 30 يونيو (حزيران) الماضي بهدف تعزيز أهداف سياسية، يجب أن يتم رفضها».
وقالت السفارة إن الولايات المتحدة «عبَّرت بعبارات واضحة للسلطات اللبنانية عن توقّعها أن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية».
ضمان استمرار المؤسسات
يكسر البيان السلبية الأميركية واستراتيجية واشنطن السابقة القاضية بتجنّب الدخول في الملفات الداخلية، فهي نادراً ما تصدر بياناً مرتبطاً بأزمة داخلية أو ملف محلي وله علاقة بصلب الأزمة السياسية المتصاعدة في لبنان، بل تكتفي بالإشادة في الملفات اللبنانية الداخلية بإجراء استحقاقات كالانتخابات النيابية، أو تشكيل الحكومة. وعادة ما كانت السفارة تصدر بيانات متعلقة بملفات لبنانية ذات إبعاد إقليمية ودولية وأمنية، مثل دعم الجيش اللبناني والقوى المسلحة الشرعية في محاربة الإرهاب وحفظ الاستقرار، وأخرى متعلقة بالحفاظ على الاستقرار الحدودي جنوباً والالتزام بالقرار الدولي «1701». وتشدّد على دعمها على الاستقرار في البلاد، وعلى تفعيل عمل المؤسسات.
وفي ضوء هذا التطور، أوضح مصدر مراقب للمواقف الأميركية في لبنان لـ«الشرق الأوسط» أن البيان «يتضمن تنبيهاً من استمرار الأزمة وإقفال المؤسسات وتجميد عملها». ولفت إلى أن السفارة في العادة «تمارس الحذر لجهة إبداء راي أو موقف في ملفات لبنانية محلية، لكن هذا البيان يبدو أنه ينطلق من مخاوف جدية من تعطيل لعمل المؤسسات، علماً بأن الأزمة متعلقة بصلب عمل المؤسسات الرسمية»، وبالأخص، تعطيل اجتماعات الحكومة لخمسة أسابيع حتى الآن بغياب أي موعد محدد لاستئنافها، إضافة إلى «المخاوف من أن تذهب الأمور إلى موقع خارج السيطرة ما يطيح بمكتسبات مؤتمر (سيدر)». وشدّد المصدر على أن الموقف هو للتحفيز على تفعيل المؤسسات والتحذير من استمرار التأزم السياسي.
ضرورة الاحتواء
من ناحية أخرى، جاء البيان وسط مخاوف محلية ودولية من أن يكون التأزم السياسي محاولة للعودة إلى الأزمة التي يبدو على أنها تنتشر وتتبعثر في كل الاتجاهات، حسب الناشط السياسي ومدير مركز «أمم للأبحاث والتوثيق» لقمان سليم.
سليم أشار في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «ليس بالأمر المعهود أن تصدر سفارة واشنطن في بيروت بيانات عند كل حادثة أو تطوّر سياسي أو أمني يقع في لبنان»، لكن هذا التطوّر الأمني الأخير في حادثة قبرشمون «أدى إلى تعطيل سياسي غير مسبوق ومفتوح على الوقت»، وعليه فإن «واشنطن في سياق الدعم المستمر للاستقرار في لبنان، تحاول إيجاد مخرج»، ثم أضاف: «في العقل الأميركي، يجب على القضاء أن يقوم بدوره، لكن ربما ينظر البعض من اللبنانيين إلى أن القضاء في لبنان قد يكون جزءاً من المشكلة، ومن هنا تأتي الدعوة للتعامل مع الحادث بطريقة تحقق العدالة دون خلفيات سياسية».
ورأى سليم أن ما ورد «يصحّ فيه التحذير من استمرار الوضع، وإبقاء الأزمة مفتوحة دون اجتراح طريقة لاحتوائها»، مشدداً على أن «ما يعني واشنطن هو الحفاظ على الاستقرار، وتحت هذا العنوان أقرّا البيان والدعوة للملمة الموضوع وعدم تركه يتفاعل ويتسرطن أكثر لأن الجسم اللبناني هشّ، وبقاء الأمور على نحو متأزم قد يعرّض الاستقرار للخطر لأسباب أنانية».
وعن إمكانية أن يعتبر البعض البيان في الداخل اللبناني اصطفافاً مع فريق دون آخر، قال سليم إن «هذا هو التفسير البلدي المحلي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار أن بلداً كاملاً يُنظر إليه على أنه معطّل وبحالة خطر، لكنه في الواقع ليس اصطفافاً، بل ربما يكون دعوة لحلفاء واشنطن للسير في طريق الاحتواء الذي ربما لن يكون مخرجاً كاملاً، لكنه في الوضع اللبناني قد يكون تأجيلاً لأزمة لم يوجد الحل الكامل لها».
غطاء أمني واقتصادي مستمر
للعلم، يتصدّر حرص واشنطن على استمرار عمل المؤسسات، الأولويات الأميركية، لكن لا يمكن تحييده عن الملفات المرتبطة بالاستقرار اللبناني الذي يضمنه عمل المؤسسات، وهي ملفات تُعتبر الولايات المتحدة معنية بها. وهنا علّق رياض طبارة، سفير لبنان الأسبق في واشنطن، قائلاً: «هناك غطاء أمني واقتصادي دولي للبنان، إذ لا مصلحة لأحد، سوار الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى إيران بالإخلال به. وعادة تعتبر الولايات المتحدة رأس الحربة في توفير هذا الغطاء، وهي لا تتدخل في كل شاردة وواردة في الشأن اللبناني، إلا إذا كانت الأمور ستخرج عن السيطرة، وهو ما دفعهم أخيراً للتدخل».
ولفت طبارة إلى أن السفيرة الأميركية في بيروت «جالت على المسؤولين اللبنانيين، وأبلغتهم أن فقدان السيطرة على الاستقرار غير مسموح به. لكن الأمور (مع ذلك) لم تتجه نحو التهدئة، وهو ما دفع واشنطن لإصدار بيان تحذيري يحذر من المواجهات الطائفية».
وأعرب طبارة عن اعتقاده أن الأميركيين «جاهزون لاستخدام إجراءات صارمة لحماية الاستقرار، وكان البيان توجيهياً في مضمونه نحو عقد مصالحة ومنع الأمور من التدهور باتجاه منحى طائفي أو مواجهة طائفية غير مسموح بها».
3 محطات سابقة
لا ينفي جميع المطلعين على أن التدخل في البيان كان نادراً، لكنه يتشابه بالظروف مع ثلاث محطات سابقة دفعت واشنطن للتدخل مباشرة في الشأن اللبناني عندما كانت الأمور تفلت عن السيطرة.
السفير طبارة ذكر أن «كل حقبة كانت لها ظروفها، بدءاً من عام 1958 حين نفذ الجيش الأميركي إنزالاً على الشواطئ اللبنانية. وفي عام 1983 عندما بدا أن هناك محاولة لسيطرة أجنبية على القرار اللبناني ما دفع بالأميركيين للتدخل عسكرياً إلى جانب قوات إيطالية وفرنسية، قبل استهداف قوات (المارينز) الأميركية والقوات الفرنسية في بيروت بتفجيرات. وفي المرة الثالثة، بعدما رفض السوريون الانسحاب من لبنان وإعادة الوضع لفترة ما قبل التدخل السوري، فكان القرار 1559 في عام 2004. ليليه الدعم السياسي لـ(انتفاضة 14 مارس)، التي أدت إلى الانسحاب السوري من لبنان وإعادة الأمور إلى نصابها. والآن في ظل الصدام السياسي الذي أنذر بانفلات الأوضاع». ووفق طبارة «مع أن كلّ تدخل له حيثياته، فإن القاسم المشترك في التدخلات المباشرة هو أنه من غير المسموح أن تخرج الأمور عن السيطرة في لبنان، خصوصاً بعد الحرب الأهلية».
أولويات أميركية
ينظر كثيرون إلى أن التدخل الأميركي لحماية الاستقرار في هذه المرحلة، ينطلق من ملفات ترى الولايات المتحدة أن إنجازها أو الحفاظ عليها ضمن الوضع القائم (الستاتيكو) من أولوياتها. أبرز هذه الأولويات هي: الاستحقاق المقبل المرتبط باستخراج النفط والغاز في البحر المتوسط، وأمن الحدود الجنوبية، وتحييد لبنان عن لهيب الأزمة السورية، ووجود مليون لاجئ سوري في لبنان، والاستحقاقات المرتبطة بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، واحتواء التمدد الإيراني الذي «يستفيد من الفوضى» في المنطقة، والدعم بالعتاد والتدريب للجيش اللبناني. غير أن طبارة ينظر إلى تلك الملفات على أنها تفاصيل، رغم أهميتها الكبيرة، خصوصاً أمن الحدود الجنوبية. إذ يشدد على أن «الأولوية المطلقة التي تعتبرها واشنطن بنداً أساسياً في لبنان يتمثل في السيطرة على الأوضاع، بحيث لا تندلع حرب أهلية يعجز الجميع عن احتوائها والسيطرة عليها، ومن شأن أي اهتزاز بالاستقرار أن يطيح بكل تلك الملفات التي يراها البعض أولويات».
في الوقت نفسه، يعتبر طبارة أنه «لا مصلحة لأحد في أن يتدهور الاستقرار في لبنان، لا الولايات المتحدة ولا إيران، رغم اختلاف الأسباب من وجهة نظر كل منهما»، مضيفاً: «بينما تتطلع واشنطن إلى أهمية الحفاظ على استقرار وضع الحدود الجنوبي وأمن إسرائيل، تأتي إيران ضمن الدول التي تفرض غطاء أمنياً أيضاً منعاً لتدهور الأمور، لأنه لا مصلحة لها بإضاعة ملايين الدولارات التي أنفقتها على الترسانة الصاروخية لـ(حزب الله)، وتكتنزها للاستخدام في أي مواجهة محتملة مع إسرائيل، والاستفادة منها في الصراع. وبالتالي، لا مصلحة لها بإضاعتها على حرب أهلية داخلية، وهو ما يدفعها للدخول في المنظومة التي تهدئ الأمور، وأن يبقى لبنان محيداً عن الصراع».
انقسام لبناني حول «بيان واشنطن»
> أدان «حزب الله» بشدة البيان الصادر عن السفارة الأميركية، واعتبره «تدخلاً سافراً وفظاً في الشؤون الداخلية اللبنانية، ويشكل إساءة بالغة للدولة ومؤسساتها الدستورية والقضائية»، ورأى أنه «تدخل مرفوض في نزاع سياسي محلي وقضية مطروحة أمام القضاء اللبناني القادر منفرداً على القيام بواجباته على أكمل وجه».
في حين جاءت آراء بعض السياسيين، حتى من القريبين من «حزب الله» أقل حدة، إذ قال نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي إن «بيان السفارة الأميركية فيه إيحاء بأن واشنطن تقف في صف حلفائها»، مشيراً في حديث تلفزيوني إلى أنه «وجد تراثاً لبنانياً قديماً باستقدام التدخل الخارجي في الخلاف الداخلي».
أما النائب السابق عمّار حوري، مستشار رئيس الحكومة سعد الحريري، فقد حذّر من أخذ الأمور بخفة، واعتبر أن «بيان السفارة الأميركية يُسلّط الضوء على المخاطر التي قد نواجهها»، مذكّراً «بأننا في مرحلة إعادة تصنيف دولي على الصعيد الاقتصادي، وأننا نسعى لاستثمار مقررات (سيدر)، من خلال دعم دولي، وكل هذا لا يتأتى إلا من خلال علاقات طيبة مع دول العالم».