العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

شهر نشاط من جهة واشنطن... قابله صمت في بغداد

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني
TT

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

كان الشهر الماضي حافلاً بالنشاط من جهة الولايات المتحدة الأميركية حيال العراق، ومتسماً بالصمت من جانب الحكومة العراقية في بغداد. ففي أعقاب القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، بنحو أقل من أسبوعين، جرى الإعلان عن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» الذي ينتظر إحالته إلى مجلس الشيوخ الأميركي بعد التصويت عليه من قبل مجلس النواب. وتزامنت هذه التطورات مع تطور خطير آخر، هو ما كشفت عن تقرير نشرته صحيفة «التايمز» البريطانية، عن إقدام إسرائيل على قصف مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وأشار التقرير إلى استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية أولاً كل منطقة آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين، وثانياً معسكر أشرف في محافظة ديالى.
ولقد راح ضحية قصف هذا المعسكر طبقاً للتقرير عناصر من الحرس الثوري الإيراني، فضلاً عن كتائب «حزب الله».
الجهات الرسمية في العراق أحجمت عن الرد أو التعليق على قرار وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، ومشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق». وأحجمت كذلك عن الرد على تقرير لصحيفة «التايمز» البريطانية، عن قصف إسرائيل مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وحقاً، باستثناء القرار الإجرائي الذي اتخذه البنك المركزي العراقي بتجميد الأصول المالية للشخصيات الأربع المستهدفة بالعقوبات الأميركية - وهي أحمد الجبوري (المعروف بـ«أبو مازن») ونوفل العاكوب وريّان الكلداني ووعد القدو - لم يصدر أي موقف رسمي من بغداد... لا بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق»، ولا على تقرير «التايمز» عن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية. واللافت أن النفي بشأن قصف المواقع صدر عن «هيئة الحشد الشعبي»، التي قالت إنها شكّلت لجنة للتحقيق في «حادثة» آمرلي، فاتضح (حسب الهيئة) أنه «لم يكن هناك قصف بل انفجار وقود صلب»، أما القصف على «معسكر أشرف»، فلم يُشِر إليه أحد داخل العراق.

تساؤلات وإيحاءات
ردود الفعل العراقية بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» تعكس الجدل السياسي في البلاد حيال كل شيء، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان التعبير عن موقف وطني موحّد إزاء قضايا يُفترض ألا تكون موضع جدل أو خلاف بين مختلف القوى والأطراف السياسية.
ففي الوقت الذي تساءل فيه محمد شياع السوداني، عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «دولة القانون»، حول ما إذا كان هذا مشروع القانون هذا يعني «وصاية جديدة على العراق... أم لجعل العراق ساحة اشتباك مع دول الجوار»، فإنه أجاب على تساؤله بنفسه بالقول إن «هي إلا كلمة حقّ يراد بها باطل». وأردف السوداني أن مشروع القانون، الذي أصبح مثار جدل في الأوساط السياسية العراقية، ينصّ على أنه يحقّ للرئيس الأميركي «فرض عقوبات على أي أجنبي ينوي القيام - متعمداً - بأي شكل من أعمال العنف، له غرض أو تأثير مباشر على تهديد السلام والاستقرار في العراق، أو حكومة العراق وتقويض العملية الديمقراطية فيه، أو تقويض الجهود الكبيرة لتعزيز البناء الاقتصادي والإصلاح السياسي أو تقديم المساعدات الإنسانية إلى الشعب العراقي».
كذلك يشترط مشروع القانون على وزير الخارجية الأميركي مسؤولية «إعداد قائمة معلومات وحفظها ونشرها وتجديدها سنوياً، عن مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات أو (القوات بالوكالة) في العراق التي تتلقى مساعدة لوجيستية أو عسكرية أو مالية من الحرس الثوري الإيراني. وهذا، فضلاً عن ممارسة الإرهاب داخل العراق، وتحديد إذا ما كان ينبغي معاقبة الأفراد المُدرَجين في القائمة، وإذا كان ينبغي عد الأشخاص المرتبطين بتنظيمات معينة إرهابيين ومعاقبتهم».
ولئن كان السوداني قد طرح تساؤلات ذات إيحاءات معينة، في إشارة إلى أن مشروع القانون هذا يأتي في وقت تزايدت فيه مخاطر التصعيد الأميركي - الإيراني، الذي لن يكون العراق في معزل عنه، فإن أكاديميين عراقيين آخرين كانت لهم حيال مشروع القانون آراء تكاد تكون متطابقة من حيث المضامين، إذ رأى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات الاستراتيجية، في حديث له مع «الشرق الأوسط» أن «القانون يأتي كالتزام من قبل الدولة الأميركية، بقيادة الكونغرس والأحزاب والرئيس ونائب الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية، بدعم الدولة العراقية والحفاظ على الأمن والاستقرار كمسؤولية أخلاقية وتحالف سياسي مع الدولة العراقية، وكالتزام سياسي بالحفاظ على الأمن والاستقرار بعد دحر كيان (داعش) الإرهابي».
وأضاف الدكتور علاوي أن «الولايات المتحدة تريد أن يكون العراق بعيداً عن الصراع الأميركي - الإيراني وعمليات التصعيد الجارية. ولذلك هي ستقف مع الحكومة العراقية والشعب العراقي». واستطرد موضحاً أن «هناك استراتيجية أميركية جديدة في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقوم على فلسفة الارتباط الصلب، وهي لأول مرة بعد سياسة الرئيس جورج بوش (الابن) السابق، تعود بواشنطن لاتباع استراتيجية الارتباط الصلب بدل المرن التي اتُّبعت في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان قد أثّر كثيراً في مكانة دعم العراق في القرار الأميركي». وتابع علاوي مشيراً إلى أن «المصالح الأميركية كبيرة في العراق، وجزء أكبر منها هو التزام واشنطن باستقرار العراق سياسياً وأمنياً واجتماعياً».

عودة التأثير الأميركي
أما الخبير الأمني سعيد الجياشي، فإنه يرى أن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» أعاد العراق إلى التأثير الأميركي المباشر في هيكلية النظام السياسي، مع قدرة محاسبة واضحة... وفق ما جاء في نص مشروع القانون الذي لم يحدد في نصوصه معايير واضحة للعمل به. ويضيف الجياشي في حواره مع «الشرق الأوسط» أنه «إذا اكتملت دورة إقراره من مجلس الشيوخ والبيت الأبيض نكون أما مع وضع جديد تماماً من خلال مراحل تنفيذه في طياتها خطورة أكثر من (قانون تحرير العراق) الذي شرّعه الكونغرس الأميركي عام 1998». ويوضح الجياشي أن «من المتوقّع أنه سيكون لهذا القانون وصلاحياته قدرة عالية على إزالة مَن تريد من الشخصيات، وتقويضها، أو تجميد الشركات والحسابات وإيقافها، ومصادرة أموال مع تقويض مستمر لما تراه يمثل تهديداً لاستقرار العراق، وفق هذا القانون الذي معاييره غير واضحة».
وينبّه الخبير الأمني إلى أنه «من المهم أن تهتم الحكومة وقنوات الدولة بمراجعة وبحث أسباب تحريك القانون حالياً، رغم مرور فترة سنتين على الشروع بتشريعه؛ إذ ربما كان هناك ربط واضح في التوتر المتصاعد بين إيران وأميركا وعلاقة العراق بهما، وإمكانية أن يكون العراق منطقة اشتباك بينهما... والقادم، وفق هذا القانون، ينذر بتصعيد متعدد الاتجاهات والمجالات».
في السياق نفسه، يقول الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي» لـ«الشرق الأوسط» معلقاً إن «هذا القانون، بعد التصويت عليه من قبل مجلس الشيوخ الأميركي، في أعقاب إقراره من قبل مجلس النواب، سيفتح الباب أمام الرئيس الأميركي لاتخاذ إجراءات عقابية إضافية بحق إيران»، ثم أردف أن «هذا القانون يأتي بمثابة تحدٍّ ليس فقط للحكومة العراقية الحالية، وإنما هو تحدٍّ ماثل للقوى السياسية لاعتماد موقف يتماهى مع مصلحة العراق، ثم إنه يشكل تحدياً حقيقياً للفصائل المسلحة التي أشار لها هذا القانون، ولشكل علاقتها مع إيران».

التدخل العسكري... ممكن
ومن ثم لاحَظ الدكتور الشمري أن «القانون يتيح للرئيس الأميركي التدخل عسكرياً في العراق، لحمايته من أي مؤثرات تقوّض العملية الديمقراطية»، واستطرد شارحاً: «هذا القانون يتماشى مع الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، التي يكفل أحد بنودها الحق للقوات الأميركية في التدخل عسكرياً تجاه كل ما يزعزع أو ينوي لإسقاط الحكم الديمقراطي في العراق». وأشار إلى أن «القانون مرَّ بمراحل طويلة، حيث يبدو أن هناك قلقاً أميركياً حيال الجهات التي تمتلك السلاح في العراق. وبالتالي، فإنه سيترتب عليه أمور كثيرة، وبالأخص لجهة إعلان الجهات المقربة من إيران على لائحة الإرهاب الأميركية. وأنا لا أستبعد أن يجري تخادم ما بين هذا القانون واتفاقية الاتفاق الاستراتيجي التي تتيح للولايات المتحدة الأميركية التدخل عسكرياً إذا ما وجدت أن الديمقراطية في العراق مهددة. وهذا يعني أن احتمالية التدخل العسكري قد تكون واردة في حال حوّلت بعض الجهات العراق إلى (أرض احتكاك) أو هددت العملية السياسية، أو حاولت خرق سيادة العراق أو نظامه الديمقراطي».

«داعش» خلف الباب
من ناحية أخرى، واصل الجيش العراقي على مدى الشهرين الماضيين حربه ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، أمام خلفية محاولات البلاد الخروج من عنق زجاجة مشاكلها الداخلية. وللعلم، تبدأ هذه المشاكل من تعذر إكمال تشكيل الحكومة (حيث لا تزال حقيبة وزارة التربية شاغرة)، ولا تنتهي بالجدل حول مُخرجات البرنامج الحكومي، الذي تقول الحكومة إن نسب الإنجاز فيه تعدت الـ79 في المائة... بينما تقول لجنة متابعة البرنامج في البرلمان العراقي إن المنجز لم يتعد الـ36 في المائة.
العملية العسكرية الجديدة ضد هذا تنظيم «داعش» أطلق عليها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اسم «إرادة النصر». ولقد بدأت منذ أيام صفحتها الثالثة بهدف مطاردة عناصر «داعش» داخل محافظات ديالى وكركوك ونينوى. ومع إعلان الجيش العراقي تحقيقه «انتصارات كبيرة» على هذا التنظيم، بما في ذلك اختراق منظومته الخاصة، وتجنيد عناصر منه لصالح الجهد الاستخباري العراقي، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن «(داعش) عاود ظهوره في العراق وسوريا».
التقرير الأميركي يقول إنه «رغم خسارته خلافته على المستوى الإقليمي فإن تنظيم (داعش) في العراق وسوريا عزّز قدراته في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي من السنة».

تقرير «البنتاغون»
وأضاف تقرير «البنتاغون» أن «التنظيم استطاع توحيد ودعم عمليات في كلا البلدين، والسبب في ذلك يرجع بشكل جزئي إلى كون القوات المسلحة غير قادرة على مواصلة عمليات طويلة الأجل أو شن عمليات متزامنة (في وقت واحد) أو الحفاظ على الأراضي التي استعادها». وفي هذا السياق يقول الدكتور هشام الهاشمي، الخبير المتخصّص بشؤون الجماعات المسلحة لـ«الشرق الأوسط» إنه «رغم أن شبكات فلول (داعش) عادت لتنشط بشكل فاعل في كل من مثلث غرب صلاح الدين وجنوب نينوى وشمال الأنبار، ومثلث شمال شرقي ديالى وشرق صلاح الدين وجنوب كركوك، فإن عودته في غرب العراق تختلف عن عودته في شرق العراق».
ويضيف الهاشمي شارحاً أن «بنيته في غرب العراق يغلب عليهم الطابع العشائري المحلي، على عكس شرق العراق الذي يشكل فيه الفلول من العشائر غير المحلية غالبية واضحة أو قيادة مسيطرة».
ويتابع الهاشمي إن «مقارنـة اعترافات فلول تنظيم (داعش) الذين أُلقِي القبض عليهم خلال عامي 2018 و2019. تظهـر عـلى نحـو جـلي ارتفـاع نسـبة مَن اعترفوا بأن نظرتهـم تجـاه عقيدة ومنهج (داعش) نظرة سـلبية عند فلول غرب العراق، وذلك لأن معظمهم كان انضمامهم لأسباب اقتصادية وليست عقائدية أو دينية فقهية. ويتضـح هـذا الأمـر، عـلى نحـو واضح، لدى جميـع اعترافات الموقوفين أو المسجونين من تلك المناطق». ثم يؤكد الدكتور الهاشمي أن «تطلـع فلول (داعش) إلى كسر الحـدود بين العراق وسوريا، إنمـا يمثـل قمة أهدافها المقبلة، وسـعيها لتأسيس الخلافـة المزعومة التـي تقـوم على أسـاس البيعة لأبو بكر البغدادي. عملياتهم هناك قد تمهّد إلى تخادم الولايات المتحدة كما تخادمت مع الفصائل السلفية في أفغانستان بالضد من السوفيات». ويمضي الهاشمي في شرحه قائلاً إن «العراق بحاجة إلى سـند اسـتراتيجي واضـح. ويبـدو أنـه رغم أن الحكومة العراقية لا تسـتطيع الإقـرار بذلـك صراحـة. فالسند الاسـتراتيجي والعسكري الوحيد والعملي بالنسـبة إليـها هـو التصالح مع الشعب العراقي، حيث إن النصر العسكري الذي تحقق بطــرد (داعش) مــن المناطـق ذات الغالبية الســنّية في غرب وشرق العــراق ضرورة حيويــة، لكــن مجــرد هزيمــة «داعش» عسكرياً لـن تحــدث فرقــاً جذرياً إذا لم تنفذ برامج تمكين الاستقرار وإعادة الإعمار وإنهاء ملف النازحين كما هو مخطط».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.