بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

مملكة جونسون غير متحدة

ما لم تختبئ مفاجأة من العيار الثقيل وراء الكواليس في مجلس العموم البريطاني، وفي مجالس كبار دهاقنة حزب «المحافظين»، وهو أمر مُستبعد، الأرجح أن يشهد نهار هذا الأربعاء انتقال دفة حكم المملكة المتحدة من المغادرة تيريزا ماي، إلى الآتي بوريس جونسون. صحيح أن السيدة ماي تغادر منصب رئاسة الوزراء في بريطانيا منقسمة على نفسها سياسيا. لكن الأمر المرّجح، كذلك، أن تسلّم مستر جونسون الحكم، إلى جانب زعامة الحزب، سوف يزيد عوامل الانقسام غلياناً، وربما يضاعف حدتها، إذ من الصعب تخيّل التئام جراح أوقعها مسلسل «بريكست» الدامي بجسم بريطانيا، طوال ما يقرب من ثلاث سنوات.
أحد أبرز أسباب تزايد حدة الانقسام داخل المملكة المتحدة، في ظل حكومة برئاسة بوريس جونسون، يتمثل في شخصية الرجل نفسه، أولاً، ثم سياساته، ثانياً. ضمن هذا السياق هناك تيار يضم ساسة من مختلف الأحزاب، ويرى أن مجرد وصول جونسون إلى منصب وزير خارجية بريطانيا (2016 - 2018) كان في حد ذاته خطأ تتحمل تيريزا ماي وزره بالدرجة الأولى. أنصار هذا الزعم رأوا، آنذاك، في شخصية الرجل من الخِفة ما يتعارض مع أهمية المنصب وحساسيته. هناك أيضاً مَنْ ذهبوا إلى حد القول إن مسؤولية عمدة لندن، هو أقصى موقع رسمي يمكن لشخصية مثل جونسون تسلّمه. معظم القائلين بهكذا أقوال ليسوا متحاملين لأسباب ذاتية، بل بينهم مَن يقدّر للرجل غزارة ثقافته، وسعة معرفته، وموهبة التعبير لديه، كتابة وخطابة، لكنهم لا يرون في تلك القدرات ما يكفي لتحمل أعباء إدارة الحكم، ويأتون بمثل من وراء الأطلسي ممثل بالأميركي ستيفن بانون، المفكر الاستراتيجي، ولاعب الدور الأساسي والبارز في فوز الرئيس دونالد ترمب، والذي أُزيح من ساحة اللعب السياسي بالبيت الأبيض، فور بروز خلاف بينه وبين الدائرة الأقرب للرئيس ترمب، خصوصاً جاريد كوشنر، صهر الرئيس، ومستشاره الأهم.
أما في شأن سياسات بوريس جونسون، فإن انقسام الرأي يذهب أبعد من حدود الخلاف حول الشخص، كي يمس جوهر مضمون ما بعد تسلمه رئاسة الوزراء. أول المخاوف، في هذا السياق، يخص التوجهات فيما يتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. عدد من وزراء حكومة تيريزا ماي لم يتردد في رفض العمل مع جونسون، وفي مقدم هؤلاء فيليب هاموند، وزير المالية، الذي استبق احتمال أن يُقال من جانب جونسون، بالقول إنه سوف يخرج من الحكومة قبل أن تقدم تيريزا ماي استقالتها، رسمياً، للملكة إليزابيث الثانية اليوم. ضمن سياق متصل، أقدم سير ألّن دنكن، الوزير بوزارة الخارجية، على الاستقالة أول من أمس، واصفاً «بريكست» بأنه «سحابة داكنة» في الأفق البريطاني. سوف يعمق انقسام المملكة المتحدة، سياسيا، في ظل حكومة يرأسها جونسون، الإصرار من جانبه على إتمام تطبيق «بريكست»، بالخروج نهائياً من الاتحاد الأوروبي في اليوم الأخير من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، حتى لو يتم التوصل لاتفاق مع قيادة الاتحاد في بروكسل. هكذا سيناريو، إذا جرى، الأرجح أن يؤدي إلى نوع من الانشقاق الاسكوتلندي، حتى لو لم يُعلن رسمياً، وظل في شكل جفاء سياسي، بالإضافة إلى تململ في كل من ويلز وآيرلندا الشمالية.
واضحٌ أن بوريس جونسون يأتي إلى حكم مملكة غير متحدة في الموقف من التعامل معه شخصياً، ومع سياساته. تُرى، هل يتمكن بما يملك من مواهب في تغيير مواقفه من التغلّب على تعقيدات ما يواجهه؟ في العمل السياسي، ليس ثمة ما هو ثابت وغير قابل للتغيّر. قبل سبع سنوات، تقريباً، عندما تزايد همس صالونات لندن السياسية عن إمكانية أن ينافس جونسون، وهو يومها عمدة لندن الناجح، ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء آنذاك، في زعامة الحزب، ورئاسة الحكومة، تضمن مقال لي نشرته مجلة «المجلة» بتاريخ 10-10-2012 السؤال التالي: «هل ثمة فائدة لمراكز صناعة القرار في عواصم العرب، أن تتهيأ من الآن لاحتمال التعامل مع رئيس الحكومة بوريس جونسون، إنْ فاز المحافظون في انتخابات 2015؟». من جهته، نفى جونسون دائماً أي طموح في رئاسة الحكومة، بل ذهب مرة إلى القول إن احتمال أن يجلس في المنزل رقم «10دوانينغ ستريت»، يشبه تخيّل إلفيس بريسلي حياً يمشي على سطح المريخ. الكلام شيء، الخيال شيء مختلف، أما الواقع فيظل هو الشيء العملي الملموس.